الحافة مشهد من رواية الغريب

5 دقائق للقراءة

لم يكن في حياة الغريب شيء فارغ لا معنى له، بل أغرقته المعاني منذ بداية حياته الترابية، وطاردته حياته القديمة، بآلام كبيرة، وعوالم عديدة اقتحمت هدأة طفولته وريعان صباه، وخنقت زهرة شبابه، فكان البلاء يتبعه، وكانت الآلام والأسقام، وكان التحدي، وكانت الشجاعة التي لا مثيل لها.

 

كيف بقي حيا رغم أن كل شيطان في العالم السفلي كان يسعى لقتله، وكل ناري سيطرت عليه قوة الظلام، مستخدمين الهجمات المباشرة أحيانا كلما رفعت عنه الحماية لحكمة مرة أخرى، أو من ينتمون لنوعهم من البشر.

ومن حيث لم يكن ذلك الشاب النحيل يعلم، اجتمعت الشياطين في عالمها المظلم مرة أخرى وتحدث قادتها عن الغريب مجددا، فهو شغلهم الشاغل قبل أن يأتي الدنيا، وهمهم الثقيل حين أتاها، ففيه الوحش الذي سيبيدهم أجمعين.

قال الإبليس الأب وقد اشتعل قرناه وتشكل بشكله الأكبر الذي يدعي أنه يحاكي به صاحب القرنين: ليعطني كل واحد تقريره المفصل.

ابدأ أنت أيها الحقير خيموتا.

وقف العجوز البشع المحدودب الظهر ذي النتوءات في وجهه وقال: أمر مولاي الشيطان المعظّم إله الظلمات.

لقد أصبناه بأمراض كثيرة، حتى أوصلناه إلى الحافة، ولولا أنه لن يموت إلا بعد تمام قدره، لكنا قضينا عليه.

نحن لا ندع فرصة ونفوّت مجالا، كلما رأينا ضعفا في هالته، علمنا أن فيلق حمايته قد فتح لنا الباب حتى نبلوه، ولعلهم يظنون أنهم يدربونه ويصقلونه، لكننا نستمتع بتعذيبه، ولو استطعنا لشربنا من دمه، فنحن لا نكره شيئا في هذا الوجود أكثر من ذلك الدم وتلك السلالة التي كم قتلنا من رجالها وكم فعلنا فيها الأفاعيل بجنودنا من البشر.

ابتسم كبير الشياطين بفرح، وهز رأسه كأنما ينتشي بما يسمعه، فتلك السلالة محل مقته وحقده وحسده، وذلك الدم عدوه وعدو كل ذريته وكل شيطان من شياطينه جنا كان أو إنسا. فقد حسد وحقد على الأب الأول الذي حرمه الجنة والخلافة، وتسبب في أن يُمسخ شيطانا، ثم تتبع سلالة المختارين، حتى ظهر المحبوب وظهرت سلالته، فلم يمقت أحدا كما مقته ومقتهم، ولم يؤذ أحدا كما آذاه وآذاهم، ولم يتخذ جندا أحقر من الجند الذين سلطهم عليهم، خاصة أدعياء المحبة.

دلس خيموتا فنظر إلى كائن تحيط به هالة سوداء كثيفة وقال له: وأنت أيها اللئيم شنيورا.

ابتسم بزهو وقد ظهرت أنيابه الطويلة كأنياب الضباع: أنا يا سيدي سلطت عليه الحجارة، ومكرت مكرا عظيما…

فكلما تخاصم الاطفال بالحجارة أصابته واحدة، كنت أستخدم طاقتي لإصابته بها، مستغلا لحظات نزع الدرع النوراني عنه، كما هو مكتوب عليه، وكنت أتلذذ برجمه.

لقد أصابه مرة حجر في خصومة ليس له فيها يد، والتصق بجمجمته، وكان يجري خلف الطفل الذي ضربه، دمه ودموعه سببا لي سعادة ونشوة لا يمكنني وصفها.

لمعت عينا الشيطان الأب بمكر وقد راق له الأمر.

وقد فتنا مرة بينه وبين أحد أبناء عمه، دخلت جسمه وسيطرت عليه وكان طفلا صغيرا، فضربه غدرا من الخلف بحجر كبير، ولولا أن وضع بيهاردن يده لكسرنا رأسه يا سيدي، لكن ذلك لم يمنع من إصابته بوجع شديد جعله عاجزا عن تحريك عنقه لأيام وصار يمشي معوجا.

ضحك الشياطين بغبطة.

نهض شيطان الدم شونيارا، بلباسه الأسود وعيناه المظلمتان، وقال: كل هذا لعب يا جلالة الشيطان الأكبر.

أنا سكبت من دمه حتى شفي غليلي، فأنت تعلم أني أكره دمه ودم السلالة التي انحدر منها، ويا كم سفك إخوتي من شياطين الانس دماءهم بالتعاون معنا ومع حلفائنا من كفرة الجن.

ومنذ أن رأى والده الرؤيا قبل ولادته، وكيف أنه يحمله على كتفه ليظهر له شاربان، عقدت العزم على تحطيمه بكل السبل.

وإضافة للنزيف المستمر من الأنف، والرعاف الذي لا يتوقف، دبرت مكيدة كبيرة، في عرس خاله، فقد كان الشباب يلعبون لعبة الأعراس، يقفز الواحد منهم فوق ظهر الآخر، وكان في عين من يراه مجرد طفل بشري يعدو ويضحك، ولكنه في أعيننا كان قاتلنا ومبيدنا وعدونا الأكبر ولو لم يدرك بعد ذلك.

استخدمت قدراتي على التنويم وفن الجنجتسو السفلي، وسيطرت على حركته حين رأيت مجالا لذلك، حتى اصطدم بشاب يحني ظهره، وقفز الآخر ونزل على أنفه فكسره، وسال دمه كنبع فوّار، كان يصرخ من الألم ويبكي وقد فقد شيئا من وعيه، وأنا أضحك بنشوة مع فيلقي، حتى سطع نور وعرفت أن أعداءنا النورانيين حضروا، ففتحت بوابة وفررت إلى أسفل حين يُمنع عليهم ملاحقتنا إلا بإذن خاص، وهنالك شاهدناه من بلورة الرؤيا، قرعنا كؤوسا من خمرة الظلام، وضحكنا كثيرا.

لم يكف الدم، حتى استعملوا أكياسا الخيش لمسحه، نهر من دم سال مثله في كر البلاء وفخ، دم تعشق الشياطين كلها أن تراه مسفوكا، لأنه موصول بأكثر من نكره في الخلق كلهم.

وهكذا تفاخر كل قائد من السفليين بما فعله، وما أصاب به الغريب طفلا لا يدري لماذا يصيبه ما يصيبه، ويافعا لا يدرك سر ما يُلم به، وكائنات النور تحيط بهم وتسمعهم، وتملك غضبها، وتطيع سيدها في مقاديره المرة العسيرة، وتنتظر بصبر ليلة الاكتمال، وبداية الملحمة، حين ينزلون مع الوحش الأعظم العالم الأسفل، ويحرقونه بكل كائن فيه.

وكان السفليون لا يتوقفون عن مهاجمته، ودفعه نحو الحافة، تباعا وبلا شفقة، كلما وجدوا فرصة سانحة، واستمر الأمر حتى ضربه ميتشي، قائد الفيالق السفلية والابن الأكبر لكبير الشياطين، وكانت ليلة أخرى من ليالي العذاب والموت، لكنها كانت الأشد والأقرب إلى الحافة، احتضر الشاب الغريب فعلا، وانتفخ جسمه كله، لكنه لسبب غامض لم يشعر بذرة خوف، بل ضحك من عدم قدرته على الكلام، وانتفاخ لسانه، ونام وهو واثق أنه سينتقل، بعد أن ودع أما واجمة وأبا حزينا، ثم استيقظ أزرق اللون من احتقان دمه، فقد قام بيهاردن بختمة ضغطت تلك الطاقة السوداء الزجة المتأججة، وتقيأ حتى كاد يلفظ أنفاسه، وشعر بتمزق أمعائه، وهو أمر سيتكرر معه مرارا حتى حين يبلغ الكهولة.

بقيت تلك النفثة الملعونة في جسمه شهرا ونيف، وكان خروجها من جسده مؤلما جدا، على فتى في الخامسة عشر، لكن الغريب لم يكن يبالي، بل كان يتحمل فوق ما يتحمل البشر، حتى كانت مشاهد أخرى أشد وجعا، وأكثر إيلاما، وفر من هولها من رام تطبيبه مرة، أو أراد رتق جرح غائر في رأسه، والغريب يبتسم رغم أن التخدير لم يكن يعطي مفعولا على جسده.

لقد كانوا يدفعونه كل مرة إلى الحافة، حتى يكاد يهوي منها ويغادر عالم الفناء، ولكنه كان يرجع أشد قوة وأكبر عزما، وكان كل ذلك يثبت له أمرا واحدا: أنه من المختارين، وأن له مهمة عظيمة، فلو لم يكن، لما حاربه السفليون تلك الحرب، ولما آذوه كل ذلك الأذى، وكان هذا نورا أنار في وعيه منذ صباه البكر، ثم كانت الرؤى والكرامات الكثيرة وتمظهرات رجال الوقت والنورانيين، حتى أتت الليلة التي عرف فيها من يكون، وثبت له ما كان يشعر به من قبل ويؤمن به.

لقد دفعوه إلى الحافة بقسوة كبيرة، وسمح سكان العالم الأعلى لسكان العالم الأسفل بأن يؤذوه بشدة وقسوة ليس لها مثيل، ولم يبلغوا من أحد من المختارين ما بلغوا منه، لكن النتيجة كانت مخيبة ومحطمة لكل شيطان آذاه، ومحبطة لكبير الشياطين، حتى استيقن أنه لن يقدر على قتل قاتله، وأنه الحافة تسحبه هو وكل نسله ونوعه، إلى قيعان الجحيم.

 

 

كل ذلك كان لا بد منه لصناعة ذلك السيف.

قال لونغ وهو يطرق حديدا في الكهف بغضب.

أما مجنون، فقد بكى كثيرا.

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة