اعرف نفسك مشهد من رواية الغريب

9 دقائق للقراءة

قرأ الغريب منذ صباه كتبا كثيرة، ضمت بين صفحاتها معارف وعلوما وثقافات، والكثير من الأدب والفلسفة، ووجد حكيما يقول: اعرف نفسك، فشغله ذلك، لأنه كان يشعر أنه لا يعرف عن حقيقة نفسه شيئا.

ولم يكن من اليسير على الغريب أن يعرف أنه حضرة الغريب، الرجل الموعود، والمبعوث الأخير، بالمهمة الأكثر تعقيدا في تاريخ عالم الفناء.

ولا كان فهم تكوينه الفريد أمرا هيّنا، فخلف كل حقيقة كان احتراق، وخلف كل معطى جديد كان اختراق.

وبين حقائق تحرقه، ومعطيات تخترق عقله وكيانه وتُفرض عليه فرضا، تغيرت نظرته للواقع، وصار الأمر لديه أكثر شمولا وأوسع مدى.

وحين عرف نفسه أخيرا، لم تكن قوة في عالم الفناء تستطيع تغيير تلك القناعة، أو زرع بذرة شك في كيانه، وكان الأمر بينه وبين ربه، وبينه وبين نفسه، ولم تكن له علاقة بكل البراهين التي لمسها ورآها.

وعندما فارق حبيبته التي عرفت سره ولم تدرك سبب الفراق ولم يكن لها أن تلتقيه إلا بعد الاكتمال، بعد عشرين عام من الغربة المريرة، لم يأكل الطعام خمسا وعشرين يوما،ولم يقرب الماء جسمه أربعة أشهر، حزنا عليها، وحدادا على قلبه، وأسًا على حبه، وهو في حال شديد وبكاء مرير وقهر قاتل ونحول دائم وسهد مؤلم وتشريد مليم، حتى كلمه الموتى، وتلى النورانيون أمامه،  ورأى القابض الأعظم فحدثه وناجاه وقبض نصف نفسه وذاق النزع وبلغت التراقي، ثم حين تم ذلك، وجد المعلم الأخضر يناجيه في سره، وزاره المحبوب فلمع نوره وأضاء عتمة الغرفة الفقيرة التي كان يتخذها كهفا لبلواه، ورأى بعين رأسه سماييل يأخذ شكل حفيده جسدا، ويطلب منه الرحيل إلى أرض جده سلام، وكان ذلك تدخلا مباشرا من رجال الوقت بإذن عظيم، وبداية تغيير كلي في حياة الغريب ومسيرته، وفي تلك الأرض أتاه بيهاردن مع المعلم الكبير، ونبعت العلوم فيضا وكشفا وتجليا، ولم تلبث أعواما حتى أبهرت الوجود كله.

وقد قال له شقيق روحه وتوأمها ومعلمه في هيأة الطين: عليك بالصبر حتى تستبين لك السبيل، وتتضح لك المعالم، ويفرق بين جاهل وعالم.

واملى عليه من الوصايا ما فيه حكمة ورشاد، وأشرق في قلبه بما أسعده، ولما سأله في أول الأمر بينهما أنت أنت تعلمني أنا، أجابه بصرامة لا تخلو من حزن: إنَّا نراك بعلمنا لا بعلمك، فاعلم علمنا تراك كما نراك.

وحدثه عن سر لقب الغريب ، قائلا أن في اللغة وتركيب الكلمات حروف مضمرة تخفي كلمات أخرى وسرا من الأسرار،  فكلمة سحر يختفي فيها حرف الحاء الذي يحمل كلمة حرام، فالسحر سر حرام، واسم الغريب في رائه معنى، فهو رجل الغيب، وقد قال العظيم عن ملك التأييد والنصرة، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا، فأنت رجل عوالم الغيب وممثلها، وأنت الروح الأعظم الغائب في رجل، وأنت كما قال عنك ذلك الخضري الفياض، الذي باع رؤوس الضأن واشترى رؤوس الحكم وحير رؤوس الناس:

قال له الحبيب لما انتخبا

في حضرة بالفضل أجرت سحبا

وقد رأى من التجلي مشعبا

أهلا وسـهلا يـــــا غريــــب الــغـربا

هذا غريب القوم في طور الولا

على الألى أهل الـــبراهيــــن علا

ذا لــقـــب ممن رقى الى الـــعـــلا

أعـظم به شأنا سمـــا ولقبا[1]

ثم قال له مبتسما: لقد كان يعنيك أكثر مما كان يعني نفسه، لأنه كان يعرفك قبل حلول وقتك، وكنت بروحك التقيته، ومن سرك سقيته، كما سقيته أنا، وهو من القلة الذين أدركوا سر اسمك المخفي في كهف الزمان كما قال توأمك السياف الأعظم.

وكان بين الغريب وذلك السيد المنفوح لقيا روح بروح في المدينة التي حلب فيها الخليل شهباءه وقام فيها شاعر عرفته الخيل والليل والبيداء.

 

 

كيف يمكن لمن عرف نفسه أن يخفيها وهي جلية، وأن ينكرها وهي ثابتة، تلك لعبة أخرى أتقنها جيدا، وقام كوان تزو بتعليمه فنونه التقمصية العظيمة، ثم أتى إليه قائد فيلق المتقمصين في الرواحين واسمه تشاو ماندار، وهو من مقام العنقاء، الطائر الناري المتشكل على أي شكل يريد.

وفي ركن من أركان ذاته، جلس يعلمه ويصقله ثلاثين عاما، حتى اطمأن إلى أن أحدا لن يتمكن من كشف سره وفك طلاسمه، إلا من نفحه القدير بذلك، وفتح على بصيرته، وهو أمر يتجاوز الفيالق كلها ليتعلق بالشأن الإلهي، وما عليهم سوى الطاعة والتنفيذ بدقة وانضباط وتسليم كلي.

وهذا مما سرى في الغريب من تلك العوالم العليا، فكان ينفذ بدقة وينضبط كجيوش المملكة الصفراء، ويسلم كالذي أسلم وتله أبوه للجبين يريد ذبحه كما رأى في الرؤيا، ولا عجب فالدم واحد والسر واحد.

وكان في قلب الغريب ثبات وفي يقينه رسوخ وفي نفسه عزم وفي عقله بحر من بحار العلم، وكان جسمه صلبا قويا، وكانت روحه تبث من قواها فيه، قوى وحش قديم مسجون في مخلوقة سفلية تحد من تمظهر قواه ولا تقدر على منعها كليا، بل لم يكن لها أن تغير من شخصية الغريب شيئا، إنما هي مجرد كيس تدريب، وحفاظة وقتية، ليس أكثر، ورغم ذلك فقد غاص فيها وفهمها وسمعها ورآها وأحس بها وفك من طلاسمها ما جعله قادرا على قراءة البشر من حوله لأن معظمهم كانوا بيادق شيطانية في أجساد طينية.

ولم يكن شيء من كل تلك العجائب التي كان يراها يذهله أو يثير استغرابه، حتى حين رأى بعين رأسه معذبا في قبره، أو حين أتت تلك المرأة التي أدخلها قبرها بعد وفاتها تزوره في عالم الطين وتكلمه وهو في ظلام تلك الغرفة النائية أيام بلائه الأسود وقالت كيف حالك وقال أنا بخير وقالت زرتني في قبرك وأنا ازورك في قبرك وكان ثوبها يلمس رأسه لم يلتفت ولم يجزع وكان من الحزن والعتاب على ربه ما شغله عن كل شيء، وقد كشف عنه ألف حجاب ولم يزدد يقينا، فيقينه من ربه لا تزيده الرؤية ولا تنقص منه الحجب.

 

حين استيقظ مرة وهو صبي ورأى دائرة حمراء تشع في مثلث أخضر، ثم استيقظ في الغد ورآها تخرج من عينه وترتسم أمامه، بكل ما تحمله من قوى ورموز وطلاسم وأسرار لم يدركها إلا ليلة اكتماله.

وحين استيقظ بعد فترة، وقد أحس بطاقة تخترق رأسه، ليجد ضفدعا يُخرج من عينيه شعاعا أزرق، وعلى ظهره قد كُتب حرف ألف، وحمله وتخلص منه، وعرف بعد ذلك أنه تشكل لبعض ملكات الجن السفلي حين تبلغ من العمر ألف عام بأعوامهم، أي مائة ألف عام بأعوام البشر، وأنه أمر يتمناه كل ساحر ليستخرج الكنوز.

أو حين استيقظ الوحش في أعماقه وصحا وتلمس وجهه ليجد أخاديد الجراح والمزق، واستيقن أن خبر قتله لنفسه خبر حقيقي.

ثم حين دخل عالمه بعد أعوام طويلة ووجده في سجنه وسمع صوته وكان طباقا لما بثه يوشتهيان عن الكيوبي في معكوس اسم مساعده وتوران.

ثم حين تم تفعيل العقل الآلي، واستيقظ ليجد من حوله قوما لم يرهم ولكن سمعهم، ووجد في فمه آلة تدور بسرعة، وعقله أشبه بجهاز كبير أحس بوصلاته وطاقته، ثم أصبح ذلك الصوت الآلي يرن في أذنيه قبل النوم لسنوات، وصار بإمكانه أن يتحكم في بعض الآلات بمجرد التركيز، وأن يُليّن المعادن ويكسر السكاكين الغليظة على رقبته، ويجعل البلور كالصلصال، حتى بلغ مستوى التحكم في السفن الطائرة وأمرها بالتوقف، فتمر مسرعة ثم تتوقف وترجع بمجرد أن يقول لها ذلك، وقد فعل ذلك مرارا أمام أنظار عدد ممن شهدوا وكانوا موقنين أن الأمر لا يعدو أن يكون سحرا، إلا قلة منهم نورت الحضرة قلوبهم وثبتتهم.

كل ذلك كان حقيقيا، ولم يكن توهما ولا ضربا من الخيال، لكنه لم يكن واقعيا ولا منطقيا في منظور الواقع المادي والمنطق الملتصق به، وتلك كانت نقطة هامة من نقاط إخفاء هويته وحمايته، فحتى من يرى البراهين بأم عينه سرعان ما سيقول إنه سحر، ما لم يكن من الثابتين المؤيدين، المأذون لهم بشرف المعرفة.

حقيقة بيهاردن الذي كان يصحو مرات فيجده وقد وضع يدا في عين بدنه يعالجها فيمسك يده ويسمعه يقول له إنه أنا، فيتركه، أو حين رآه واقفا في المرآة، أو متشكلا نمرا.

أو زوجة الوحش ميرياما، الروحانة الحورية، التي تجلت أمام عينيه ورآها حسا ومعنى، وأنشد عنها شعرا كثيرا، ثم حين مد يده نائما تحت شجرة وأقبلت تمسك يد بدنه وتختفي يدها كلما أراد إمساكها بيد جسمه فتقول له استرخ فلن تمسكني بعد بيد جسمك ولكن يد بدنك قادرة، فيفعل وتحرر يد من يده تمسك يدها الضوئية بعشق أقدم من الكون الذي هو فيه.

حقائق وحرائق اندلعت في عقله، حتى صار يقول: أنظر إلى السماء وأقول: هناك وطني. وكنت أنظر منها إلى الأرض وأقول: هنالك منفاي.

جميع هذه المسائل، مع قدرات جسمه التي تذهله، وقواه التي تحيره، والعلوم التي لا يعرف ساحلا لبحرها، وما يفيض عليه فيضا، ويكشف له عيانا، حتى استيقظ مرة ليجد نفسه قطرة ماء كبيرة ترى بلا عين وتسمع بلا أذن، ثم رجع ليكون بدنا في سقف بيتهم يشاهد والديه ويسمعهما، ثم نزل ليكون جسدا وينزع الغطاء عن عينيه ويبتسم.

كل ذلك عاشه حقا بلا ريب، ولم يكن شيء منه يذهله، حتى حين طلب المطر وجاءه، وطلب أن تعود خيوطه القهقرى ثم ترجع وفعلت، وأذّن تحت تلك الزيتونة وانشقت السماء أمام عينيه، وظهر من أقصى الأفق إلى أقصاه ضوء أحمر شقها نصفين.

أو حين أتت خيل الريح تخب فوق شجر الزيتون نفسه بعد أعوام طويلة، وتمظهر قائدها في رقص الأغصان.

أو حين كان بعض النورانيين يرسل من يده كرات الطاقة الحمراء والزرقاء والبيضاء فيراها على مقربة منه وقد يرى بعض من كانوا معه.

أو السفن الضوئية التي تمر فوق رأسه كل ليلة وتحييه، وهي ضمن فيلق حمايته المباشر المستمر من حيث لا يشعر البشر.

ولكم ظهرت له في واضحة النهار على مقربة، ولكم تحكم بها وأنزلها، أو أمرها فاختفت.

بل تحكم مرارا في قوى الريح، ودعا السحاب فنزل فوق بيتهم عيانا، وأدخل يده مع آخر في النار المتأججة فلم تحترق، وكم أمر موج البحر فوقف عند خط رسمه له، وغير ذلك كثير لا يُحصى، لكنه لم يكن ينبهر له أو يستغربه، فلا شيء منه بقي غريبا أو عجيبا، حين عرف نفسه، وأدرك من يكون حقا.

ولكن كان عليه أن يطوي تلك المعرفة عميقا فيه ويخفيها، ويلبس عليهم ما يلبسون.

لقد كان أمرا مكتوبا ألا يعرفه قبل الاكتمال إلا قلة قليلة ثابتة مختارة، بنفحة نور، حتى إن لم ير أحد منه شيئا.

كما كان مكتوبا أن لا يتمكن محجوب من معرفته، حتى لو أظهر له فيلقا من السفن التي كانت تحير العالم كله في زمانه، أو مظهر أمامه قوة من قواه العظيمة.

وكانت تلك وقاية له وحماية، ولو أنه كتب بخط يده لما أدرك أحد منهم شيئا.

لقد كان وقع تلك الكلمات عظيما على تلاميذ داريوس، في ذلك اليوم الصيفي من القرن الثالث من زمن دولة الظهور، حين كان يقرأ عليهم الرواية التي كتبها المعلم تايبنغ عن المعلم الغريب، والتي دوّن فيها ما عاينه من خبر صديقه وأستاذه وتلميذه في آن.

كيف يكون أستاذه وتلميذه يا حضرة المعلم الكبير.

قال أرجون المتقد حماسة.

نعم، هو أستاذه في عالم الأرواح، وتلميذه في عالم الأشباح.

والحقيقة أننا جميعا كنا كذلك.

مَن مِن الأرواح لم يتعلم عند الروح الأعظم.

 

 

 

في ذلك الكهف حيث بوابة التنين، كان المعلم تايبنغ يعكف أياما على الكتابة، وكان كثيرا ما يشطب كل شيء ويرجع من البداية، فلم يكن يسيرا عليه أن ينقل خبر ما عاينه، وحقيقة ما رآه، وما تم تكليفه به في تلك الليلة، حين ارتفع بأمر من المعلم الأخضر، ورأى الوحش يقتل نفسه، ثم شاهد ولادة الرضيع، وسمع بكاءه في ذلك الكوخ الطيني، ثم شاهده طفلا، وشاهد المشاهد التي كانت بين السفليين، وبين العلويين، هنالك في تلك المرآة في جبل الخلود، والتنين الأبيض الكبير ينظر إليه، وبجواره يقف المعلم الأخضر هادئا صامتا، والقائد بيهاردن بكل مهابته ووقاره.

لم يطلع أحدا من تلاميذه على تلك الرواية، حتى أتمها، ولم أتمكن من قراءتها ونقل خبرها إلا بعد أن رجع الغريب إلى وطنه وتحرر من سجنه، ثم ظهر خلفاؤه تباعا.

وقد كان لي شرف كتابة هذه التعليقات والهوامش، أنا الذي كنت أتبع خيوط الملحمة وملامح الأسطورة، وكنت أظن أن الأمر برمته مجرد خيال، حتى عرفت نفسي، وعرفت أني مكلف بمهمة، أن أكشف حقيقة ما جرى للسيد الغريب في حياته قبل الاكتمال، تلك الحياة التي شابها الغموض، ولم يتم ذكرها كثيرا عندما نزل عالم الفناء مكتملا مع تلك الجيوش العلوية الجرارة.

اسمي داريون، وأنا حفيد داريوس، ونحن في القرن الخامس بعد دولة الظهور، وقد تمزقت تلك الحضارة وانتهت، ولم تبق إلا بعض المدن التي فيها بقية خير، أما العالم من حولنا فقد سيطرت عليه مسوخ التنين الأسود، الدجال ساكن الظلال، الذي نشر مع شياطينه التسعة شرا لم يسبق أن شهد عالم الفناء له مثيلا، إنه الشر اللازم لتقوم نهاية النهايات، وأنا هنا فوق قمة هذا الجبل، مع من بقي من الطيبين، ننتظر ريح النهاية، ونرى النيران والخراب في كل مكان، ونشاهد اقتراب الطارق وننظر إلى المتأججين وقد تهدم سدهم وهم من كل حدب ينسلون، شربوا مياه المحيطات وأكلوا شجر الغابات والتهموا المدن والمباني وقتلوا كل دابة ولم يسلم منهم شيء، وهم الآن يطاردون فلول من مسخوا من البشر، مئات الملايين من المسوخ التي كانت من قبل آدمية.

لكنهم وحاكمهم التنين الأسود يعجزون عن اختراق هالة هذه المدينة المقدسة، وكسر الختمة التي وضعها عليها السيد الغريب قبل انتقاله بليلة واحدة، ليجعلها محرمة على كل من يحمل لطخة الشر، ومحظورة على التنين الأسود وجنوده.

لمن أكتب هذه الهوامش، لا أدري، ربما لأقرأها في تلك الغرفة العليا.

ها هي السفن الضوئية تنتشر مع فيالق العلويين، وها هو السيد الكلمة ينزل مجددا.

القائدة سوزي ومجمع المنظرين أيضا وصلوا، سيكون هذا اليوم مميزا، لأنه يومي الأخير في هذا العالم.

حسنا، لنعد إلى حضرة الغريب، لعلكم تفهمون الذي أعنيه، وترون سر ما خطه المعلم العظيم تايبنغ.

إنها فرصة لكل واحد منكم كي يعرف نفسه أيضا.

 

 

 

 

 

[1] الأبيات للسيد الرواس