النمر وآخر التنانين من رواية الغريب

7 دقائق للقراءة

كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل أن يدرك أنه النمر المقنع.

وقد أدرك من عمق المعاني حين رأى وهو مغمض العينين النمر الذهبي الذي تمظهر له وهو يتدرب في الشاطئ وسمع صوت تلك الروح تقول له انظر فذلك قرينك.

اقترب منه النمر وهو يخرج من البحر ووضع وجهه على وجهه، وتغير حال الغريب منذ تلك اللحظة وصار يمتلك صفات النمر، تتحرك أذناه متى أراد وتتغير عيناه بشكل مخيف، حتى أنه تواصل مع نمر في حديقة حيوان، أخافه ثم جعله يبدو ككلب أليف. بل ويصدر عنه متى دخل ذلك الحال صوت شبيه بصوت النمر، وكان ذلك أول تجل مباشر لبيهاردن نمر الرواحين أمام توأمه النمر الغريب.

كان مولعا بالنمر حيوانا، خاصة النمر الذهبي، في خفته ودقته وجماله، وقوته الفتاكة، لذلك تدرب كثيرا على فن النمر حتى أتقنه، إلى درجة سمحت له أن يرفع من رقبته بثلاثة أصابع فقط، وكان تجلي النمر عليه مخيفا حتى كان ذلك المتحدي يفقد وعيه.

وكان يضرب بأصابعه الحجر والجدران وأبواب الحديد فيخترقها، واخترق مرة صخرة شاطئ، وبدت له كأنها عجين، وكان يكسر الحجارة مهما كانت قاسية برأسه ويده، وكانت سرعة ضربات ساقه قوية حتى أنه أسقط أحد الشباب بهواء الضربة وقد أوقف قدمه أمام وجهه.

ومرة اعترض طريقه مجموعة يمازحونه، وقالوا له لن تمر حتى تتجاوزنا، وبسرعة خاطفة ضرب الأول ثم قفز فوق اثنين لتضرب ركبته الرابع، وكانوا في صدمة مخيفة.

واتفقن أن سماه من رأى قواه القتالية الكبيرة وسرعته الشديدة وليونته العجيبة أيام دراسته في تلك الجامعة بالنمر، وكان يحب ذلك اللقب.

ولكنه أتقن كل المقامات الحيوانية الروحانية وفنونها الدفاعية، برع في فن الكوبرا وتميز في فن النسر واللقلق والسرعوفة، ونفذ أصعب حركات فن العقرب بسهولة كبيرة، تلك التي تتطلب ليونة عالية، ثم أتقن فنون التنين، ومكث الأيام الطوال في التدريب، وشغل ذلك وقته لأعوام، وكان نحيلا صلبا كالفولاذ، قويا مهيبا كالنمر.

وفي مرحلة من حياته عرف عن فيلق التنانين، وعن فيالق الروحان، ودربوه تباعا على فنونهم المختلفة، ووجد ما لا يحصى من الأنماط والأساليب، ومن التشكلات الحيوانية، وعرف أن للنمر سبعين مقاما، وللأفعى مثل ذلك، ولبقية المقامات الروحانية ما يزيد أو ينقص، وأن للتنين عشرة مستويات، وأن لفنون السيف سبعون نمطا كبيرا، ومائة أسلوب، وأن هنالك ما لا يحصى من التوليفات الحركية.

ثم تدرب على مقامات التشكل الروحاني الخالص، فنون كاسيوس وياماكا، وهما من مقام الذئب، وقد جرى مرة بقوة الذئب الأسود وتسارع لدرجة فاقت سرعة سيارات السباق، وكان أمرا مذهلا شبيها بأفلام فلاش، وفنون آكاي سيد فن سيف الريح الذي حرره مرة وكاد يقتلع شجر الزيتون في حقلهم، وفنون كونيسترا وبيهاردن، وفنون أخرى يضيق بها مجال الراوي.

كان يمتلك قوى تنويم كبيرة، وكان يحرك سلسلة بعينيه وقد أمسكها بأصابعه في أيام الصبا، ثم استخدم قوة الكهرباء مرات ضد بعض المجرمين الذين أرادوا أذيته، وكان يصعقهم بمجرد لمسهم، وجمّد حركة آخر، وأعاد ذلك مع غيره حتى منعه من تحريك جفنيه، وتحكم في أحمقين أرادا ضربه أمام الناس في الشاطئ، وجعلهما يلقيان نفسيهما في الماء مرارا بملابسهما وقد تناثرت الأموال والوثائق منهما.

كان ذلك من فنون التحكم العقلي التي علمها له كونيسترا، ملك الأفاعي والتنويم والتحكم، وأستاذ المعلم الكبير بودي دارما.

وبلغ الغريب من القوة القتالية والعقلية ما كان يثير الرعب لدى كثيرين، لكنه لم يكن يتحكم في تلك القوى، إنما يشعر بانسيابها مرات، واختفائها مرات أخرى.

وحين كُتب عليه العذاب الذي سيصهره ويُذيب معدنه، شعر أنه فقد السيطرة، وأن قوة شر كبيرة كانت تخترقه في نوبات غضب تأتيه، لم يدرك حينها أن كبير الشياطين كان يستخدم بوابة ماريا ليثير غضب الوحش الكامن في أعماق كيانه.

وهنا تجلى عليه المعلم الأخضر، وشرع في تعليمه، ليولد من النمر كائن آخر، معلم كبير، ورجل من رجال الوقت.

ولكن سبق ذلك بلاء شديد، ومحنة عسيرة، ولقاء مع سيد من سادة المجمع الأعلى.

ففي ليلة من ليالي بلواه بعد الشهر الأسود، وبعد أيام طويلة من الألم والبكاء، رأى بعيني بدنه ذلك الكائن العظيم، وسأله هل أنا الموعود حقا، فغضب وتحول إلى أفعى ذات مسامير وهو يقول له: فيما أتيتك إذا.

مايونداريل الذي زاره بشكل مباشر ورفض أن ينزع الستارة كي لا يموت، وكان قد ألح على طلب الموت بعد الفراق، قال له سأقبض نصف نفسك.

ومد يده إلى صدر بدنه وقسم تلك النفس نصفين، وشعر بها تخرج من حلقه كالكرة، لقد تم نزع نصف طاقة ماريانا، واتسع صدره بعد حرج.

وفي الليلة الموالية رأى كائنات من نور، ثم رأى كائنا آخر يقلد ما كانوا يفعلون، وحين سأله من أنت صمت، فقال له تشهد فلم يفعل، فأمسك رقبته بقوة، فتحول إلى ثعبان وطار إلى أعلى.

ثم رأى بعد ثلاثة أشهر من ذلك في نقطة البلوى تلك صاحبه يطلب منه السفر، واقترب منه يسأله عن أمر، ثم اختفى، وإذ بصاحبه يصحو من النوم، فأدرك أن ذلك لم يكن صاحبه بل أحد رجال الوقت تجسد أمامه، وعزم على السفر، وكانت قصة بين حزن وألم وأمل، ثم كان في تلك الغرفة دون باب، وفي نفس الليلة رأى في الجدار الكواكب والأرض أمامه، وقال له صوت: في سجن الجميل كانت تشرق شمس الرب، وفي قصر من طغى كانت الظلمات.

وكان الغريب قد زهد في كل شيء وأنكر على نفسه كل ما كان، ولم يكن له من هدف سوى ترميم مرآة قلبه المحطمة، وكان قبل ذلك يستطيع إيقاف دقات قلبه، كأنما يتم تدريبه على الموت، في حين أن تلك التقنية هدفها تنقية طاقة الحياة.

ولكن دقات القلب العاشق لم يتمكن من إيقافها ولا منع ذلك النبض الذي كان يوجعه كطعنات الخناجر.

لكنه رغم ذلك مشى على جراحه وحرك أجنحته المتكسرة في وجه الريح العاتية، وكتب ذلك الكتاب لأيام طوال وساعات بلا نوم. وبدأ يتغير، وفتحت بوابة عقله أخيرا، بعد بوابات الجسد والبدن والنفس.

 

بعد أعوام، وفي رؤياه، رأى غوثا يكتب كتابا في مسجد، فاشتاق أن يكلمه، ثم خجل فهرب منه، ثم رجع، وغوث يناديه أقبل، فيخجل ويمضي.

ابتسم غوث وقال ما لك لا تأتينا، أجابه: أنا مذنب.

فقال غوث بصوته المهيب: اترك ذنوبك في حضرتنا كما تترك حذاءك أمام باب المسجد، وائتنا بخير ما عندك.

قال الحب. أجابه: ذاك هو.

مضى يجري ثم يعدو على أربع كالنمر واستقر بجوار غوث الذي بدا له شابا يكتب بخط جميل.

نظر غوث إليه وقرب منه وجهه وتلألأت عيناه وقال له: يا غريب. أرخ لنا زمامك، وخذها كما تأتيك، وانشغل بأمرنا، نشتغل بأمرك.

تذكر الغريب بعد ذلك كيف رأى الرؤى الكثيرة، وكيف أولها وفهم ما فيها.

وكان يشعر بالأسى والوحشة، لكنه يشعر بواجب إكمال المهمة، حتى ينتزع ذاته البشرية نزعا، ليكون تلك الذات الكاملة.

لكن المعلم قال له: إن العصا والأفعى كانتا معا. كل واحدة منهما تعرف الأخرى.

ولكن علم الأفعى بالعصا أكبر. ولعل العصا فقدت الذاكرة حين نزلت من عالمها الأسنى وأصبحت في عالم البشر.

ولكن بعد الإلقاء والتحول إلى أفعى ثم إلى ثعبان عظيم، لم يتم التنكر للعصا، بل كانت من شق البحر، ولم تفعل الافعى ذلك، إكراما لها على صبرها إذ يهش بها الكليم على غنمه وله فيها مآرب أخرى.

وذاتك البشرية هي تلك العصا، قوتها في ضعفها، قيمتها في شعورك بالفقر والعجز والألم.

لأن كل ذلك يجعلك عبدا خالصا، ويلقي بك في بحار التسليم.

وحين تكون في بحار التسليم، ستغدو قوتك أشد، ويصير ضعفك قوة.

وسيغني الله فقرك بغناه، ويمد عجزك بقدرته، وينزع ألمك برحمته.

وكان يوصيه كل مرة بوصية، ويلقي في روعه من العلوم والمعارف والفهوم ما يعجز عن إحصائه، حتى صار لا يعرف كم يعرف، ولا يدري كل ما يدري.

وحين بلغ من اليقين والتسليم ما أهّله لمجالس المعلم الأعظم والأخذ عنه بشكل مباشر، أصبحت له مواقيت فيها مجالس علم مكثّفة، تتم في أعماق وعيه مرة بالتخاطر الباطني، وخارج جسمه مرة بالإسقاط النجمي، أو في رؤياه ولم يكن يرى إلا حقا، أو مكاشفة عينية.

قل له المعلم مرة: اعلم أن للأسماء والصفات تجليات، وتلك التجليات لها مصاديق في تاريخ البشر وتاريخ من كان قبلهم.

وما هذا الوجود سوى تجل للجمال والجلال والكمال.

ولكن أعين الذين أصابهم العمى بالدنيا لا ترى إلا الظلال، ولا تمشي أقدامهم إلى في سبل الضلال.

وقد يمكر البشر كما مكر من سبقهم، ويصيبهم الغرور، ويطغون بوهم القوة.

ويظنون ظن أصحاب إيرام أن لا أحد أشد منهم قوة، فينزل صاحب القرنين ويحولهم إلى غبار مع مدنهم العظمى وأسلحتهم.

ونقدِم مع جيوش السماء لنجعل ما عملوا من عمل هباء منثورا.

وكل ذلك من تجليات الأسماء والصفات، والتي سيُجليها عليك صاحبها كما لم تتجلى على أحد من قبل، تصريفا كاملا وإذنا مطلقا، رغم أن سيدك المحبوب أعظم منك مقاما وهو مجلى الذات ذاتها، ولكن ذلك فضل من ربك عليك، لا أفضلية لك عليه، وأعلم أنك تدرك هذا جيدا.

أجاب الغريب بهدوء: حاشا لله أن أبلغ من الظن بنفسي إلا أن أكون تراب قدم مولاي ومحبوبي.

ابتسم له المعلم الأخضر وقال: ولعل أشد البشر غرورا وكذبا وزورا من سيتم عليهم العذاب وينفذ عليهم الوعد الأخير، من أنت فيهم وبينهم.

إن الأمة المعدودة قد كتب عليها القدير أن تبلغ الذروة، وأن تجتمع فيها كل صفات الأمم الهالكة التي بيّنها في كتاب النور الأخير المنزّل على المحبوب سيد الكائنات.

فقد اختار أمما بعينها وذكر معاصيها وغرورها وطغيانها وشذوذ بعضها، ليس فقد لمجرد سرد خبرهم، بل ليكون ذلك إعلاما بما سيكون حتى يأتي العذاب المؤخر إلى الأمة المعدودة.

سأله: ولكن أليس الإنسان خليفة لله في أرضه، فما حكمة أن معظم ذرية آدم بين الفسوق والجحود والإنكار أو الغفلة، حتى قال ربنا لمحبوبه إن تتبع أكثر من في الأرض يضللك عن السبيل.

لأن سر اسم آدم فيه قدر ذريته، أجابه المعلم.

فمن معاني اسمه آلة الدم، لما فيه من آلات وآليات وأجهزة وأنظمة تسير بالدم والطاقة.

ومن معاني اسمه آية الدم، لأنه آية من آيات الله الكبرى.

ومن تلك المعاني: آل الدم، أي سلالة تنتقل فيها الأسرار عبر الدماء، كما انتقل إليك سر المحبوب وآله عبر الدم.

وتلك السلالة الدموية فيها نوعان من الدم: دم القاتل ودم المقتول، ابني الأول الذين قربا القربان.

وقد تشابهت دماء وقلوب، بين أزكياء أنقياء، وفجرة أشقياء.

وكان مقدورا عليهم سفك الدم، يسفك الشقي دم النقي، حتى ينتقل آخر طيب من عالم الفناء، ليبقى الدم الفاسد فقط ممسوخا فاقدا لكل حس إنساني، وعليه تقوم نهاية النهايات.

أطرق الغريب هنيهة ثم قال: إنها لعمري حكمة مريرة، لكن ما علينا سوى التسليم.

 

وليلة نزع النمر المقنع قناعه، قال كلٌّ لقد رأيته، لقد قابلته.

حتى المقربون منه والذين لم يسمح لهم بمعرفته إلا تلك الليلة قالوا لقد كنا نعلم، ولكن لم نكن نعلم أننا نعلم.

ورغم أن دانيش دهقان تلك المنظمة التي ورثت شر من كانوا قبلها وكانت تسعى لفتح بوابة التنين الأسود بعد ثلاثمائة عام من تلك الليلة بقي على عناده أن النمر لم يكن سوى كائن فضائي كما ردد البشر عند ظهوره محاولين منع قدر القدير وتغيير مسار حكمته، فإن الأمر كان كما أذكر لك يا عزيزي داريون، قال داريوس لحفيده وهو يربت على شعره.

لقد كان يبلغ من العمر خمسة أعوام فقط، ورغم ذلك قص عليه داريوس خبر الغريب مفصلا، لأن المعلم تايبنغ أطلعه أن حفيده ذاك، سيكون آخر التنانين.

 

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة