نهاية المهلة من رواية الغريب

6 دقائق للقراءة

هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة وأكثر ثقلا وبحجم تكون به الذرة كونا متسعا، بتسارع يجعل الضوء يبدو كصخرة تنظر للمعان البرق، ثم تناثرت الجزئيات وأقبلت موجات الطاقة البيضاء النقية من العالم الأعلى لتشكل الذرات وتجمع أنساقها.

سمى بشر ما قبل النهاية تلك الجزيئات بالكواركات التي شكلت النترونات والبروتونات، وسموا موجات الطاقة بالالكترونات، وسموا ذلك المشهد بالانفجار العظيم.

وحسب كبار علمائهم في الكونيات أن الانفجار ولّد فيما ولّده تلك المادة السوداء وطاقتها وما فيها من تحكم في عوالم الكم وعوالم الثقالة ومدارات الكواكب وما به تكون المجرات وعناقيدها والثقوب السوداء، لكنهم جهلوا أن الكون لا يمكنه أن يسعى بنفسه في نفسه دون أن يدرك نفسه، وأن توسع الكون وتباعد المجرات دليل على أن المادة السوداء كانت قبل الانفجار، وتم فيها.

كما جهلوا أن ذلك الالكترون الذي يكون في كل مكان طالما لم يُنظر، وإذا نُظر ورُصد اتخذ موقعا واتخذ له توأما، ولفّا في مغزل متضاد واتفقا مهما كان بعد المسافة بينهما في تشابك كمي يصلهما ببعض، وأنه حين ينتقل دون حركة، ويتحول من موجة إلى جزيء بمجرد النظر، واعيا بنظر الناظر إليه، بل حين يلقون به ليعبر حيزين متجاورين يعبرهما معا في نفس الآن، ويتجاوز في سلوكه كل قوانين الكون الظاهري وقواعد نيوتن ونسبية آينشتاين، إلى كمومية لها ناموسها الخاص، جهلوا ان كل ذلك مع خصائصه التي تمنع عنه التفتت وتأثير الزمن، براهين كونه ليس من نسيج عالم المادة، وعالم الذرة وما دونها، بل هو روح المادة، والروح تنزل من فوق تلك البيضة السوداء، من العالم الأسنى، وأنه كائن منفصل له وعيه وله من يراه ويتحكم به، وأن كل الاكترونات ليس سوى واحد فقط له يخترق المكان والزمان إلى حيث لا مكان ولا زمان فيكون متعددا ويكون مفردا ويكون هو في ما كان وما يكون وما سيكون، وهذا مما في العالم الأعلى حيث يمكن لأي منهم أن يكون واحدا وأن يتعدد ويظهر في أمكنة شتى في نفس اللحظة.

بعد ذلك الانفجار كانت نجوم عظمى اتُّخذت مطابخ للعناصر التي ستشكل المواد، بحرارتها الشديدة، وضغطها الكبير، وكثافتها العالية. وكان الواحد منها بحجم عنقود مجرات، تسعة فقط، حمراء وزرقاء وصفراء وخضراء ورمادية وسوداء وزهرية وبنفسجية وقزحية، لكل عمل ووظيفة، ولكل لون من ألوانها دلالة وتمظهر طاقة من العوالم العليا.

قامت بما خُلقت له، بعد أن كانت السماء دخانا لمليار عام، وحين أنهت مهمتها التي استغرقت مليار عام، أو يوما من أيام العالم الأعلى، انفجرت كلها وتناثرت منها العناصر والذرات وما كان منه نسيج عالم الفناء.

ثم هُيِّئت كواكب وشموس وأقمار، وخلق القدير من يعمرها، وكانت الأحجام كبيرة والأعمار طويلة في اول ذلك، والقوى عظيمة والعلوم غزيرة، والتقنيات متطورة، وكانت كائنات من صلب المادة وأخرى من عناصر أخرى لها أبعادها ككائنات النار، وكلها مكلفة في مقام يسمح بالشر ويسعى بالحياة نحو الموات.

وكانت مهلة لعالم الفناء فيما شكل الدنيا، محنة وامتحانا، ولكل أمة أجل، وأفنى القدير كل ما على تلك الكواكب ولم يُبق إلا واحدا جعله موضع الاختبار الأخير والمهلة النهائية، وخلق فسوى بشرا من طين، وكانت فتنة كبير الشياطين، وكانت نُظرة، وكانت المهلة التي نبلغ الآن نهايتها يا حفيدي داريون.

كان داريون قد بلغ العشرين، وكان داريوس يعلمه ليكون خليفته، وقد أرسل ابنه إلى كهف فيلق الظلام ليمكث مع يوشين زمنا، وقد سماه باسم القائد كاسيوس.

 

 

 

 

 

تكاد المهلة أن تنتهي، قال بيهاردن لتايبنغ، حين التقاه مرة أخرى في جبل الخلود، حيث فيالق التنانين.

نعم، إن الدنيا أوشكت على الانتهاء، ونفذ وقتها.

قال كونيسترا: نحن وُجدنا قبل أن يتشكل نسيج السماوات.

ورغم شساعة ما منحنا من وقت وزمن، فنشعر بالثانية كما يشعر البشر بالسنة، ورغم الاختزال في زماننا، فنشعر بالألف سنة كما يشعر البشر بالثانية، فإن كل ذلك مضى بسرعة، ظهرت حضارات واختفت، عمرت كواكب ثم صارت مواتا، وظهر بشري الطين، وكانت ملاحم وقصص ذريته، مدن وقرى وحضارات، ازدهار وتدهور، عمار ودمار، طغيان وعقاب سماوي، أنبياء وأتقياء، وفجرة وظالمون. رجال ونساء، عجائز وأطفال، قصص حب وقصص كراهية، رغبات لا تنتهي، وأعمار تنقضي، وبشر رميم، وآخرون تقنعهم الدنيا أنها لا تزول، ثم يزولون عنها وما تزال على غوايتها لمن يأتي بعدهم.

ولكن رغم أننا عايشنا قيامة كواكب، وزوالها، فإن اقتراب نهاية النهايات أمر يرعب قلوبنا التي لم تعرف الرعب، فنحن مشفقون منها، ونعلم أنها الحق من ربنا، ونعجب من البشر وغيهم وغرورهم، ونعجب من استمرار كبير الشياطين في كفره، رغم معرفته بمصيره.

تنهد تايبنغ وقال: لم أعد أعرف إن كنت بشريا بعد، أم أنا تلك الروح التي كانت قبل عالم الفناء، أم أنا واحد منكم، فما أمضيه معكم أكثر مما أمضيه مع أبناء جنسي الذين أتسلل بينهم دون أن يروني إلا نادرا في بعض المهمات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في الكهف الجليدي، جلس يوشين مع سفردايم وهولاو ينتظرون كي تونغ وفودجا.

قال يوشين: اقتراب نهاية المهلة سيجعل الضغط علينا أكبر من سوانا من فيالق المُنظرين.

لأن ذلك يعني أن التنين الأسود وشياطينه التسعة القدامى سيخرجون من سجنهم، وأن المتأججين سيتحررون من سد صاحب القرنين، وأن علينا أن نساهم في دفع أشقياء البشر إلى مصيرهم، واختراق تنظيم العين.

قال سفردايم: لقد كنت منذ يومين مع هولاو في العالم السفلي، أراقب كبير الشياطين، ورأيته من حيث لا يراني.

كان يبدو عليه الفزع، وكان يصرخ على من في مجلسه من دهقانات وأبالسة وشياطين. ثم صاح: ألا تعرفون أن نهايتنا حلّت وأن وقتنا انتهى، وأن مهلتي انقضت ونظرتي انتهت.

أيها الحمقى، مجرد ولادة ذلك الغريب تعني أننا انتهينا.

حكم الافناء سيتم تنفيذه علينا جميعا، إبادة كاملة، لأنه وبمجرد أن يقتلني الغريب ستتلاشون جميعا ولا يبقى منكم إلا سخام وغبار ودخان.

فلماذا يا أبناء التي لا تسمى تبخلون في عملكم، وتتكاسلون.

أين الشر والغواية والفساد والفتن.

عيثوا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.

انشروا كلامنا، كلام الشياطين، وحرفوا كلام الصدّيقين.

تكلموا على ألسنة أشقياء البشر: إلحادا بالخالق، إفسادا للمخلوق.

اجلبوا شر تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث، واجعلوا الكوكب كله كناديهم الذي كانوا يأتون فيه المنكر. وشككوا الذكر أنه ذكر والأنثى أنها أنثى وزخرفوا الكلام وزينوا ترهاتنا لهم.

وعذبوا ذلك الغريب، صبوا عليه أنواع البلاءات، فلم يخلق خالقي أحدا أكرهه أكثر منه ومن آل بيت هو منهم، أكره البيت وصاحبه، لأنهم فازوا وخبت، وربحوا وخسرت.

كانت عينا الشيطان كشظيتين، وكان يتلظى على نار حقده، وفي عمقه أبصر هولاو مكامن قلبه بقدرته الخاصة فهو يستطيع رؤية ما تخفي الأرواح.

قال هو لاو مقاطعا: قلبه كجرو خاف من عاصفة.

إنه يرتعد، ينبح نباحا كالأنين، يضع ذيله بين قائمتيه الخلفيتين ويتكوّم في رعب.

إن الشيطان يخاف الموت، يخاف النهاية، يخاف من نهاية أجله، وانتهاء نُظرته، ويعلم أن وقته انتهى.

لمع ضوء وظهر فودجا بختمة البوابة النارية السابعة، وهي الأسرع بين بوابات النار، وكان يحمل رسالة من المعلم تايبنغ، تكليف لفيلق الظلام بحماية الغريب من السفليين، لقد انتهى امتحانه بهم، ولم يعد مسموحا لهم أذيته بعد اليوم، انتهى وقت ذلك البلاء، وقريبا ينتهي وقت كل بلاء لذاته، إلا بلاء العشق، وتبدأ مهلته ككامل، وتنتهي مهلته في مقام الانتظار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في الجزيرة التي تقع في مجمع البحرين، حيث الموج المرتفع والبحر المزمجر والغابة العجيبة والجبل المرتفع والغيم الذي يدور فوقه، كان ولي الله يجلس في مغارته، ويردد تسبيحاته التي لقنها له سيده.

نهاية المهلة تعني نهاية مهماته التي انطلقت قبل أن ينطلق مشروع التكليف، وقبل أن يوجد عالم المكلفين الذين يذنبون ويتوب منهم من يتوب، يحسنون ويسيء منهم من يسيء.

وتلك المهمات كانت كثيرة دقيقة غريبة، لأنه كان مكلفا بالتقمص، بتعليم المختارين، وصقل المجتبين، وفتنة المكتوبين في لوح الشقاء.

طاف بعقله العظيم في مدارات ما كُلّف به.

واسترجع بذاكرته التي لا تنسى أي شيء في ملايين السنين وما فوقها، في الوجوه والقصص والأحوال والأطوار والمشاهد.

نظر إلى صخرة أمامه وأشار بيده فتحولت إلى شاشة تعرض عليه ما يجري في بيت الغريب.

كان يلعب مع طفلين، وكانا يضحكان.

قال مبتسما: الخليفة الأخير وأول أشراط نهاية المهلة وقرب وقوع ما لا بد من وقوعه لتطوى سماوات وتنكدر نجوم وتكوّر شموس وتسجر بحار وتحشر وحوش. إنه يعرف نفسه ويدرك شيئا مما سيكون، وهو في حفظ وستر ربه، ومن يبحثون عنه لا يجدونه وهو أمامهم، وكبير الشياطين ومن معه لا يستطيعون البوح حتى لأشد السحرة سحرا وشرا وقربا منهم، ولو أنه حاول لضربه فيلق مكلف بتكميم فمه فيما لا ينبغي عليه قوله، وتقييد يده فيما لا يجوز له فعله.

فتحت البوابة وظهر كبير المردة، فسأله وهو أعلم: ما جاء بك يا ياتوخ.

أجابه كبير المردة والعفاريت الذين تابوا ونالوا العفو بعد سجن طويل في الجزيرة: لقد أرسلني ماشوريان، ملك الجن الأحمر، وهو يخبرك أن هنالك حربا وشيكة بين مملكته وممالك الجن الأحمر الكافر، ويطلب منك المدد.

مع اقتراب نهاية المهلة ستنتهي الهدنة التي كانت بين عوالم الجن ودامت ألوف الأعوام، وسيتحارب المؤمنون والكافرون وهم أكثر عددا.

تذكّر عمليس ملك الجن الأسود الفاجر وكيف فتكوا به وبجيشه بعد أن اختطفوا ريحان.

نهض وقد تحول شكله إلى محارب، وتغيرت ملابسه وظهر سيف على كتفه، وبإشارة من يده ظهر رجال الوقت ومن خلفهم جيوشهم من الأرواح والرواحين.

قال لغوث: الليلة أتانا الأمر بضرب ممالك الجن الأحمر، دون أن نوغل فيهم، لأن المكلف بالفصل في أمرهم هو الغريب، فخلافته تمتد إلى حكم عالم النار أيضا.

أجابه غوث: لقد انتهت مهلة الكافرين جميعا، جنا وإنسا.

قال ولي الله: وبعد نهاية مهلتهم ستحل مهلة من هم أشد منهم كفرا، البشر الممسوخون، وسيمسخ من الجن فريق أيضا.

ففتنة ذلك الأعور تكون في الثقلين.

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة