ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب

7 دقائق للقراءة

ليلة أخرى من الوجع.

هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى.

والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر.

إن وجود ذلك النسيج في أعماق ذاته كان سببا لأوجاع لا تُحصى.

وكلما تمظهرت قوة من القوى المخفية فيه، مزقت خلايا جسمه وأتلفت أعصابه وأمرضته.

ولكنه كان يمتلك طاقة صبر وتحمّل نادرة.

وكان لزاما عليه حين يجتاز كل ذلك، أن يتذكره كله، ليفهم العبرة من ورائه والسر الكامن فيه.

وكان الوجع يزوره دائما، سواء كان وجع سقم، أو ألم جسم، أو أوجاع قلب وروح.

لكن أشد وجع هجم عليه، كان وجع التذكر، وألم الذاكرة.

أن تعرف أن ذاتك التي نشأت بها منذ الطفولة إلى ريعان الشباب ليست سوى قناع لذات أخرى أعظم وأقدم.

أن تعرف أن مخلوقا عظيما أفنى نفسه ليتمكن من التجدد فيك، ولتكون ذاتك البشرية الفانية جسرا لولادة ذات علوية باقية، وأن ولادتك كانت بعد موت تلك الذات، وأن موتك سيكون ثمن الولادة الجديدة، بأحد معاني الموت التي تجهلها تماما.

أن تعرف أن شرا قديما يستوطنك، يسكن أعماقك، وأن تواجهه وتعاين وجوده وتتيقن من أمر لن يصدقك فيه بشري.

أن يستيقظ الوحش فيك، وأن تسمعه وتلمس وجهه الممزق، وتشعر بقواه، وترى الكائنات العظيمة التي تحرسه، والسفن الطائرة التي تراقبك وتراقبه.

وأن تتساءل: هل أتوا من أجلي أم من أجله، رغم يقينك أنكما في الجوهر والمآل واحد.

وأن تحارب الشر الذي فيك، وتنزل معه إلى أسفل سافلين، ثم تعانق النور الذي فيك، وتصعد معه إلى أعلى عليين، ثم تكمل معاركك في العالم الأوسط، في عالم البشر، وتنتصر في كل ذلك.

وأن تعرف الحقيقة وتنتظر ثلاثين عاما من أعوام البشر الطويلة الموحشة، وتذوق في ذلك من الآلام وتتجرع من الأوجاع وتلاقي من المصاعب ما يفتت الصخر الصلد.

كل ذلك وما يمكن أن يضاف إليه مصدر وجع عظيم.

لكن ما يفوقه هو ما يتجاوز ذاتك، إلى تذكرك لتلك الذوات العظيمة التي تنتمي إليها روحا انتماء الأخوة، وتنتمي إليها جسدا انتماء الحفيد لآبائه.

تذكر كل مأساة عايشوها، ورؤية مشاهد منها، وزيارة مواقع ذلك، وتردد الصدى في روحك، ومعرفتك أنك المختار لتأخذ حقوقهم، وأنهم ينتظرونك، ويحبونك، ويشتاقون إليك، وأن الحب قديم جدا، وأن العهد موصول، وأنهم دفعوا دماءهم حتى يرضوا ربهم، ودفعوها أيضا حتى تكون أنت في حال الكمال الذي تنوب فيه عنهم، وتملك أرضا شربت من دمائهم وسمعت آهاتهم وآهات ذرياتهم لقرون.

كل ذلك وجع متلف.

لكن الغريب كان مجبولا على الصبر ومجعولا للمهمة، ولم يكن يملك غير التحمل والصبر والانتظار، وشحذ الهمة، حتى تمام المهمة.

وكان في قرارة نفسه لا يبالي بالأفعى ولحظة التحول وما يؤول إليه الأمر بعد ذلك.

كان تركيزه على العصا، لأنها أمانته، والباقي تركه على الباقي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جلس بيهاردن وكونيسترا يراقبان الغريب تلك الليلة، وكانت واحدة من الليالي التي تلت ليلة إيقاظه الأول.

تلك الليلة التي بكى بعدها كثيرا، وتألم كثيرا، وتفجرت فيه من الأنوار ما لم تكن طينته تتحمله، إلا بمشقة كبيرة.

إن استعادة الذات القديمة يتطلب صهر الذات الجديدة حتى تذوب تماما، ليتم الدمج بينهما كما يكون دمج المعادن بعد تحويلها إلى صهارة.

في تلك الليلة بحث عن مكان يرتاح فيه من يوم مرهق، ولم يكن له بيت يأوي إليه لأكثر من عامين، لأن الحال الذي انتابه منعه من العمل والبحث عن أسباب الرزق، وزهّده في كل شيء، رغم مواهبه الكثيرة وإمكانياته الكبيرة، وكثرة الطامعين فيها.

وكان الكثيرون يظنون أنه فقد عقله، وقد كان يقول أنهم صدقوا من حيث كذبوا، لأنه لم يفقد عقله فقدان الجنون، ولكن عقله المادي الذي نشأ به تحطّم أمام جبروت عقل قديم أقوى وأشد، ذلك العقل الذي سيعمل في أعماق وعيه بعد أن يلف لسنوات في المتاهة ويعاني من أوجاع شديدة في رأسه بعضها يشبه العواصف المغناطيسية حول الثقوب السوداء.

بحث عن فراش وغطاء في بيت بعض فتية ممن كانوا يرأفون به أو يخشونه وينام عندهم أحيانا وعند غيرهم أحيانا أخرى، يريهم عجائب من ربهم، وقد يصحو بعضهم فيجد شجرة من نور تضيء أمام عينيه، يراها حتى الصباح، أو يقوم بتنويم آخرين وعلاجهم، أو وعظهم وهدايتهم، ويحدثهم عن البشرى القادمة وعن كثير مما سيجري، ويحدث بعضهم أنه سيغيب عنهم ثم يرجع رجلا مختلفا، وأن الدنيا ستأتيه منصاعة، وسيكون له تلاميذ ومجد كبير.

وكان معظمهم ينسى كل ما رآه، وكان كثيرون يسخرون منه ويتهامسون في غيابه أنه مجرد كذاب وموهوم، ولعل أعينهم جحظت حين رأوه بعد عشرين عام وقد حقق ما أخبرهم عنه، بل وتجاوزه.

حين دخل البيت وجد الفتية قد اختفوا في غرفهم، فقد طاف على قلوبهم الشرير وطغت أنفسهم عليهم، وقال قائلهم: هذا ساحر، مجرد تافه معدم فقير، مللنا منه.

أراد أن يغادر فتمظهر بيهاردن في قلبه وقال له: الليلة تنام هنا، وحين نطلب منك النوم في شارع أو حديقة أو في الشاطئ فافعل.

التزم الأمر تصديقا وتحقيقا، ولكن الفتية لم يتركوا له فراشا ولا غطاء، وسمع بعضهم يسبّه.

كان يمتلك حاسة سمع قوية جدا منذ ليلة إيقاظه الأول، وكل حواسه تغيرت وأصبحت أقوى، ولم يكن ذلك الشاب الذي يسبه يعرف أنه يسمعه، وسينافقه حين يلقاه في الغد خوفا منه ومن الجن الذين معه كما كان يتوهم.

لم يجد فقال له النمر الذي يسكن قلبه: في المطبخ ستجد فراشا قديما متآكلا، نم عليه.

بحث عنه فوجده، وضعه على الأرض، ولما لم يجد غطاء وجد منشفة صغيرة بالية متسخة، وضعها على وجهه ونام وهو يضحك ملأ روحه على دنيا تذيقه كل ذلك العناء لأنه عرف نفسه وأدرك أخيرا من يكون.

كان البرد شديدا قارسا، فتجمدت قدماه، استيقظ ووضع المنشفة الآسنة التي خنقته رائحتها على قدميه وغطى وجهه بيده حتى شعر به وقد تجمد، فاستيقظ مجددا ووضع المنشفة على وجهه، ومكث ليلته تلك بين تجمد أطرافه وتجمد وجهه، وحين تسلل ضوء الشمس، غادر ذلك البيت، ولم يعد إليه ثانية، وبعد سنوات قليلة غادر تلك المدينة وتلك البلاد، ثم رجع رجلا مختلفا تماما، وكان يضحك كلما تذكر تلك الأيام، ويقول: إنه ثمن بسيط جدا، وهو لا شيء أمام ما دفعه الذين أدين لهم بالمحبة والولاء، وأنتمي إليهم انتماء نسب وانتماء نسبة.

أدرك بيهاردن أن صاحبه قد فني في المحبة، وأن الدنيا التي يلهث خلفها أهلها فلا يدركونه، ستلهث خلفه، ولن تدركه.

لأن قلبه كان منيعا عنها.

قلب سكنته الأوجاع حتى صقلته.

ولكنه قال لصادق وصدوق حين التقاهما وقد أهداه سمي النبي الجميل ساعة باهظة جدا وعيناه تشعان بمحبة كبيرة: نريد الدنيا في جيوبنا، لا في قلوبنا.

فالزهد أن لا تكون الدنيا في قلبك، لا أن تضيعها من يدك.

ثم نظر إليه وقال: المحبة التي في قلبك وعينيك أثمن من هذه الساعة، يا عزيزي يوسف.

 

عامان نامهما بين الشوارع والغابات والمنازل المتناثرة، وعلى الشواطئ في البرد والريح، والحر الشديد.

عامان من التعب والجوع والتدريب الشديد، المضني حتى دميت قدماه، ونحل جسده، كأنما كان يحترق ماديا وجسديا، ولم يكن يحترق فقط روحا ومعنى.

تحمل ما لا يتحمله غيره، وارتقى ما لا يرتقيه سواه من البشر في زمانه.

بل لم يتحمل أحد من المختارين امتحانه، لأن أحدا منهم لم يسقط في تلك الظلمات، ولم تودع فيه نفس سفلية، بل كان كمالهم ضرورة لهم، وكان حاله بين الظلمة والنور لازما لمهمته، وتعقيدات ذواته وقصته.

كان يتذكر صاحب النون حين نادى في الظلمات، وكان يقول: كامل منوّر مختار ينادي في ظلمات “إني كنت من الظالمين”.

لكنه مسدد مؤيد معصوم، وتلك الظلمة التي كان فيها لم تكن فيه.

ولكنني في ظلمة، وفيّ ظلمة أشد، ظلمات فوقها ظلمات، من خلالها أرى تلألأ أنوار الربوبية تشع من روحي النيرة ونفسي الطيبة، رغم الشر المزروع في أعماق كياني، وقوة الوحش الذي أبلاني، وأتعبني بعد أن دفع فناءه ليحل في جسدي بين برزخين وعالمين: عالم طين، وعالم دخان.

كان نجي روحه يحدثه عن المعاني المنطوية في المباني، وعن المعنى المطلق دون قيد مبنى.

وكان يسعى لفهم كل مرحلة، وما لم يصل إليه العقل بالفهم القويم، يحيطه القلب بجناح التسليم.

ومَن سلّم سلِم.

 

 

 

 

 

 

في فصل آخر من فصول غربته ووجعه، كانت الرحلة الطويلة، العجيبة، بكل من التقاهم وصحبهم وصحبوه، وعرفهم وعرفوه.

وجوه كثيرة ومواقف عديدة، وعدد لا يحصيه حسابه من الطيبين، أحبوه وساعدوه، ورافقوه.

وآخرون من دونهم كرهوه وحذروا منه، حسدا من أنفسهم ومرضا في قلوبهم.

لأنه لم يصدر منه ما يؤذي أحدا، بل سخّر نفسه وجهده للعلم والترقي، وزيارة أهل الله، والكلام بالنفحات التي تسكر بها القلوب وتنير بها العقول.

وكانت السماء تعينه كل مرة بأمر من أمور الروح وفنون السر، ولم يكن يلتفت لذلك، بل كان همّه ربّه، وبلواه حبّه.

وبين قوم يتحدثون عن كراماته، وآخرين يدعون أنه ساحر، كان يمضي في سبيله المرسوم له بعناية ودقة، وكان يقول أن السر لا يكمن في التخطيط، بل في التسليم وفهم المخطط الرباني الذي يتم في الحياة.

ورغم ذلك كان يخطط ويفكر ويرسم تصوراته، حتى إذا ورد على قلبه أمر أنجزه مسلّما مؤمنا واثقا، حتى في مواقف كان فيها قريبا من القتل، ومن الموت، ومن التهديدات التي حاول تنفيذها أصحاب نفوذ كبير، ولكن تدخل عالم الروح كان قويا في كل مرة، رادعا مبهرا، مخيفا.

ليالي وجعه المستمرة كانت لها ثمار دائمة من أشعار وخواطر وأفكار، فالوجع معلم للإبداع، وصاقل للنفوس، لأن من لم يجرب الألم، لن يقوى على حمل القلم.

والقلم أثقل من الصخر، وأحدّ من السيف، إن كان من يكتب به صادقا، أما الكاذبون، فأقلامهم كالزبد الجُفاء.

 

كان بإمكانه أن يتنفس بين الفينة والأخرى بعد الغرق في الأوجاع، وكان لذلك النفَس لذة لا يعرفها إلا من جرّب الغرق ثم استرد أنفاسه.

وكان له مع الغرق خبر، حين كان في بداية شبابه، ووقع في حفرة في البحر الذي مضى ليستمتع بالسباحة فيه، وكان شيء لم يفهمه يسحبه للأسفل، شيء كأنه اخطبوط، أو روح سفلية، غرق ثم ارتفع، وقاوم ما كان يجذبه، حتى ارتمى شاب بجواره يشده ليخرجه.

وكان ذلك درسا عميقا فهمه بعد أعوام، وأدرك أن قوة كبيرة من قوى الظلام تريد هلاكه، وأن قوة أعظم منها من قوى النور تحفظه بأمر ربها، ولكن كان عليه أن يلزم الحذر، وأن يعرف أين يضع قدميه، كي لا يقع في حفرة أخرى، ويغرق ثانية.

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة