قصة الماء

5 دقائق للقراءة

ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها.

وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام مسبقة موروثة: سحر، جن، أو شيء من وراء الطبيعة.

حتى العلم المادي لجأ إلى ذلك حين ألقى كل ما يتجاوز فهمه وناموسه الذي رسمه بعناية لينفي وجود خالق وليسجن كل شيء في نمط مادي تطوري يكذب ويدعي فيه على سذّج العقول كما ينفث فيه كبير الشياطين ودهقاناته من شياطين النار وشياطين الطين.

لذلك فحكاية الغريب بما فيها لا يمكن أن تراها العقول التي رأتها بأعين الرؤوس إلا شيئا من السحر وعمل الجن، أو مما وراء الطبيعة التي لا يجب أن يلتفت إليها كثيرا، بل الأولى تناسيها والفرار منها والتحذير من صاحبها.

كبر الغريب وكبر أعداؤه، وبين أعداء الصبا وأعداءه حين شارف على الكهولة، وأصبح ما أصبح عليه، كانت قصته تمضي بتشويق سماوي وفن علوي في تحقق أرضي، كشجرة مباركة عظيمة، تعرف الأرض عمق جذورها، وتعرف السماء ارتفاع أغصانها.

وكان الغريب يشبه نفسه بالماء، ويقول لأحبة له: كنا في نفس الغيمة، الأولون والآخرون، ثم أمطرت بنا السماء من غيم المقادير كلٌّ في زمان ومكان، فكم من أحبة لنا نزلوا قبلنا وتركونا، ثم صعدوا ونزلنا وتركناهم، وسوف نتبخر يوما ونرجع إلى نفس الغيمة، حيث الأولون والآخرون مجموعون في ميقات يوم معلوم.

وأنا كماء نزل جوف الأرض وسكنها زمنا، ثم امتد إليه جذر شجرة، فصعد في ضيقه صعودا عسيرا يسعى من الظلمات إلى النور، وحين بلغ الجذع شعر ببعض السعة، وارتفع بجهد جهيد وقدرة قادر حتى بلغ الأغصان، فسما منها إلى أوراقها، وتراقصت الأوراق بين النسائم وخيوط الشمس، فصعد ونظر إلى الشمس نظرة واحدة تبخّر بعدها كما يتبخر العشاق عند الوصال بعد طول فراق وكَبَد اشتياق.

أنا أنتظر تلك اللحظة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في ليلة من لياليه بأرض الهرم، كان يكتب عن جهنم، عن نارها وأوارها، وكان يعالج قضية الحال والمآل، والكتاب القديم، وما كان في قدر السعداء والأشقياء.

تلك الليلة نام كعادته مع مضي ساعات الليل، ثم فتح عيني روحه ورأى تلك الرؤيا.

كانت عين كبيرة حمراء تنظر، أدرك أنها عين صاحب القرنين، أو عين توأمه الذي يسكنه.

نظرت تلك العين إلى أسفل، ورأت أبوابا سبعة، بجوار كل باب يقف كائنان عظيمان لكل واحد منهما درع مكسو بما يشبه الزرد، وأذنان ليستا كآذان البشر بل هي أشبه بالجن.

ولكل واحد منهما رمح أو ما يشبهه في يده.

وكانوا جميعا واقفين بصمت وهيبة.

ثم نزلت به العين فوق أحدهم، حتى بلغ إصبع قدمه الأكبر، وتحت ذلك الإصبع كان يمر نمل صغير.

نزلت به العين إلى ذلك النمل فإذا هم المكتوبون في لوح الشقاء، سودا زرقا، أجسامهم أضعاف ما كانت عليه حين كانوا في الدنيا.

نظر إليهم وكانوا صفوفا مقيدين في الأصفاد مهطعي الرؤوس يدخلون من تلك الأبواب السبعة، وكان كل صف طويلا بما لا يتخيل عقل.

نزل خلف صف من الصفوف، ووقف خلف امرأة جعداء الشعر، وكانوا جميعا عراة حفاة، فعرف المرأة وأدرك من تكون ومن الرجل الذي أمامها.

كانت مقيدة اليدين والساقين، وفي جيدها صفيحة من شيء يشبه الحديد، مع سلسلة تربطها بمن قبلها ومن بعدها.

شعر بشيء يصله بقلبها، وجد حزنا ورعبا وحسرة وشعورا بالخيبة لم يتصور وجوده، ثقيل مر، بما لا يمكن أن يكون له مثيل في عالم الفناء مهما كانت الخيبة وبلغت المأساة.

شعور موصول في كل قلب وصل الأجساد بالسلاسل، إحساس مر عميق فظيع.

صحا من النوم وذلك الثقل على صدره كالصخرة، أدرك أنه رأى مشهدا من اليوم العظيم، مشهد دخول المخلدين دار خلدهم التي فيها يحاسبون ويعذبون عذابا لا ينتهي ولا يخرجون منه أبدا.

كان كل وجع شعر به في حياته قد تحول إلى زبد في إحساسه بعد أن شعر بما شعر به أولئك الأشقياء في تلك الدار.

قال له ولي الله عندما زاره يفسر له الرؤيا ككل مرة: إنك لست من أهل تلك الدار، ولكنك اطلعت عليها، بعين صاحب القرنين، ونزلت بسره لتشهد ما يعينك على فهم ما أنت بصدد الكتابة عنه.

لكن في أعماق ذاته كانت ذات سفلية ترتعد خوفا، فقد رأت مآلها.

وكان كائن قديم يتقد بطاقة الحياة، وقد نظر بعين توأمه مجددا.

وكان كل شيء يمضي نحو غاية دقيقة تتم أمام الأعين بكل ما تملك من إبهار، لكن أحدا لم يكن يرى ذلك، إلا قلة ممن شُرحت صدورهم، وأُذن لهم بشيء من المعنى، أما المعنى الكامل فقد كان وحده المعني به من بني جنسه، وكان يرتقي كل مرة قمة جديدة، ويصعد الجبال السماوية غير عابئ بوجع أو غربة أو غرابة.

وتلك همة النسر حين يريد أن يستعيد ذاكرته، وأن يطير مجددا، بعد أن اعتقد ردحا من الزمن أنه مجرد حجر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في تلك الجزيرة التي يجتمعون فيها، جلس غوث ورجال الوقت يتناجون حول أمر الغريب، ورحلته، وقصته التي لم يكن أحد منها يرجوها لنفسه، لا لعِظم البلاء، فقد اجتازوا مشاق بعضها أشد، ولكن لنوع الامتحان وطبيعته، وما لا يليق بمقام أحد منهم أن يكون فيه.

قال معين: إن العشق يهوّن كل بلاء، وييسر كل عسير، ويغلب كل مشقة.

أجابه رومي: العشاق يجعلون من السراب ماء، ثم يشربونه، وليس في أعينهم شيء مستحيل.

أجابهم غوث: بل هم حين يشربون الماء يزدادون ظمأ.

الظمأ صديقهم، لا الارتواء.

قال جميل: لا رُواء لعاشق، ولا ظمأ إلا لوصال.

ابتسم رافع وأضاف: قوم عَشقوا، وقوم عُشِقوا.

فأما من عَشِقوا فقد تذللوا. وأما من عُشقوا فقد تدلّلوا.

وبين نقطة صيرت الدلال ذُلا، وصيرت الذل دلالا، تفنى قلوب العشاق في أحوال، يرون فيها الذل عين الدلال.

تأوه سلام، وأنشد:

أنا قلبي مشتاق      يا أهل الاشواق

وذا حال العشاق      عند الهيـــامِ

 

بي حرقة عَشّـــــاق      محروق الأعماق

دمعي من الأحداق     حيــّر منامي

ضاقت بي الآفــــاق     وبلاني الخــلاّق

يــعذرني من ذاق        يفهم كلامي

والله يــــا رفـــــــاق        أفناني الـــفراق

قولوا له مشتاق        عبد السلامِ

صفق قطب وقال: يا أخي أنت عاشق، ولو كان لي أن أضيف فسأقول:

أنا في بحار العشق صاحب حالِ

يفنى في فؤادي في غرام الدالِ

حاء الحياة وميم ماء خلودها

وجمــــال حُسن آســرٍ بجــمــــالِ

حِبي جميل ناظر متبسم

وأنا المتيّم ما بلغت نوالي

حتى تصاعد نوح بوحي في المدى

وحبيب قلبي في المنام سرى لي

فضممت من في وصله بُلغ المُنى

والعشق يعظم بعد منع وصالِ

 

اكتملت دائرة المجمع وأمضوا من الليل معظمه في كلام عن العشق والعشاق، وعن الشوق والاشتياق.

وكان ولي الله يتابعهم وقد أغمض عينيه في ذلك الكهف.

وكان تاينبغ يصغي بانتباه في معبده البعيد عن تلك الجزيرة، وقد عجب من جمال لغة السماء التي لم يتذكرها إلا عندما صعد إلى جبل الخلود.

وفي عالم التراب، كانت تلك المعاني تفد إلى قلب الغريب، لأن قلبه كان يرى كل شيء، في غفلة من روحه.

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة