شارة التنين من رواية الغريب

6 دقائق للقراءة

عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على تلك النسخة يشبه حصول زعيم النازيين على البروتوكولات التي كانت تخص آبائهم المؤسسين.

ولقد بلغ بهم العناد والجحود حدا جعلهم يجزمون أنه مجرد مخلوق من الفضاء، قام باستبدال بشري وأخذ ما يشبه شكله.

ورغم كل تلك الحقائق الدامغة والتمظهرات الكبيرة التي قام بها الغريب ليلة اكتماله ثم بعدها، فإن تلك الشرذمة التي سكن نفوسها الحقد والحسد كانت تزداد غيا يوما بعد يوم في ذلك القرن الثالث من دولة الظهور العظمى.

وقبله بأعوام قليلة كان أسلافهم يخططون لمنع ظهور الغريب، وحرق الكوكب، وتحطيم القيم، حتى شغلوا الناس بما أسموه الجندرية، متلاعبين بالعقول، وأن الذكر له أن يختار أن يكون أنثى، والعكس، مشتتين الأذهان، ناهبين الثروات، ناشرين الأمراض والآفات، ظانين أن لا أحد سيقدر عليهم.

وحتى حين اعترفت تلك الدولة بوجود الأطباق الطائرة، وكثر ظهورها وتزايد خاصة في الأرض التي كان يسكنها الغريب، وكان كل ليلة يشاهد أطباقه التي تنتظره، وتأخذ نبضها القيادي من أعماق ذهنه، من كائن آلي فيه يحكمها كلها، وقد أسند ذلك لنائبه وتلميذه وابنه الروحي القائد بايوندار، والذي كان يرسل السفن تباعا لذلك الكوكب الأزرق الصغير، ضمن نسق دقيق وتنويع مقصود حتى يرى عتاة البشر أن تلك السفن لها أشكال لا تحصيها عقولهم، وتشكلات لا تدركها علومهم، وقدرات لا تصل إليها فهومهم.

وكان الغريب حين يكون مع خلص من عرفوه قبل الاكتمال يريهم من تلك السفن بل وكان المختارون لشرف خدمته والانضواء تحت لوائه يشاهدون تلك السفن باطراد رغم أن معظمهم لم يكن يدرك حقيقة ذاته، وكانوا من كل شعب ودين وبلد.

ولقد حيرتهم وشغلتهم وأشعلت نهارهم وأرقت ليلهم، بقياداتهم العسكرية وأقمارهم التي تتجسس على كل شيء.

لم يدركوا من أين أتت وأين تختفي وكيف تظهر وماذا تريد ولماذا لا تهاجم.

وكان الجواب أمام أنوفهم لكن العناد حجاب كثيف، والغرور مهلكة، ووهم القوة باب خراب لم تنج منه أمة من الأمم التي أهلكها القدير بجيوشه وجنوده وما تحت قهر سلطانه مما لا قبل لأحد به مهما بلغت قوته وتطورت حضارته وفتكت أسلحته، بل كانت صيحة صاحب القرنين أو الرخ الأعظم أو الوحش الأكبر كافية لإحداث قيامة صغرى وإفناء كواكب وحضارات ومدن وقرى بكل ما فيها.

ولقد كان القائد بيهاردن المشرف المباشر على مشروع التسوكيومي، وقرين الغريب وتوأمه، وإحدى نسخه الروحية القديمة، يعلم أن لكل مرحلة ناموس، وتمظهرات، وأن على الغريب أن يتجاوز كل مرحلة إلى التي يليها بسلاسة كاملة.

 

وكان يعرف تفصيل نسيج ذات الغريب المعقد بما لم يشهد له مثيلا، وكان يرى بدن ذاته كبشري، وجسمه الذي يمتلك خاصيات محولة جينيا، وجسده الصلب القوي، مع بدن ماريا وطاقتها وشرها، وبدن الوحش الداخلي الذي فيه، ثم الكائن النوراني الذي في أعماق الوحش، وتلك العوالم والأبعاد والقوى، والتشكلات الكثيرة والأرواح العديدة المنضوية.

وكانت على جبينه ختمة تخفي شارة قوة عظيمة، شارة التنين، والتي ألهم يوشتهيان بعض البشر فجعلوها في صور تتحرك شاهدها الغريب طفلا وحركت روحه من حيث لم يكن يعلم.

ولقد  نزع بيهاردن بعض تلك الختمة وسمح لها أن تتمظهر على جبين الغريب ذات ليلة، فصحا ورأى الخطوط والشارة، بدائرة وتسعة خطوط مضيئة، جلية واضحة، كان الغريب ينظر إليها في المرآة وقد صحا في شبه حال سكر، وهو حال يسمح له بالتفاعل اللين مع أي تحول أو تمظهر.

ولقد كانت تلك الخطوط تحمل مجالات قوة الغريب ودوائر تحكمه وسلطانه.

خط يحمل قوة تتحكم في الطبيعة بكل عناصرها.

وقد جرب الغريب ذلك، فوضع يده في النار مع يد شاب آخر ولم تحترق، وأشعل نارا في ثوب معاند، وكان يمد يده إلى الموج فيأتيه، ويمد يده مرات أخرى يحرك دوامات التراب، أمام الأعين الفزعة والتي لم تكن تصدق ما تراه، وكان أعظم تمظهر لذلك حين حاولوا قتله مرة فتشكل تشكلا جزئيا، وخرجت من أصابعه خيوط الطاقة وتحرك التراب حوله وفروا برعب وصوت أسد يزأر خلفهم، أو حين مد يده للتراب فانتصب كله كأنه ستارة عالية، وشكل منه أربعة دوامات كالأعاصير تطوف بجوار هرم داريوس الأول أمام عيني تلميذه موقن الذي بقي مبتسما هادئا كعادته، في حين أصيب الرجل المنكر عليه برعب لم يعرف له مثيلا، وكان من تحدى بإظهار ذلك، وعاين الناس الأمر عيانا، وطاف بهم صاحب ختمة النسيان مع فيلقه، ككل مرة، لينسوا إلى حين .

وخط يحمل قوة تتحكم في الكائنات، مثل التنويم الكلي، والتحكم الحركي، والاستحضار، والتحكم في التنانين، وغيرها.

وكان الغريب ينوّم بسرعة ويتحكم في الأجساد كلما تم منحه الإذن بذلك.

وقد مد مرة يده أمام عينيها الجميلتين وخرجت مخلوقات صغيرة شبيهة بالحشرات، وكان يعلم أن ذلك يعني تحكمه في ذلك النوع وإمكانية استحضار ممالك كاملة من أبعادها الخاصة، أو ما تم نقله منها إلى العالم الطيني، كالتحكم في جيش من النمل يمكنه أن يغمر مدينة بأكملها.

ولقد تجلت تلك القوى حين اكتمل وفتح البوابات، وكانت أياما لم تر البشرية لها مثيلا.

وخط يحمل قوة تتحكم في العالم السفلي بكل ما فيه، حتى التنين الأسود نفسه.

قوة مكنته من القضاء على عدد كبير من كائنات النار الفاسدة وكائنات الظلام حين كانت تسيطر على بعض البشر، وكان يقضي عليهم بسهولة في مشاهد كثيرة لا يمكنه حصرها، يعاينها أناس ينسون لاحقا بختمة على عقولهم، ومن تذكر منهم فإنه يحاول التناسي.

وهي قوة ستسمح له بإبادة الشياطين وقتل كبيرهم حين يكتمل، كما سيستخدمها قبل نهاية النهايات ليتحكم في مسار حركة التنين الأسود، حين يعود لعالم الأرواح، ويستمر في مهماته.

وخط يحمل قوة آلية تتحكم في كل ما هو آلي أو رقمي أو مرقوم، من ضمن ذلك جميع السفن الطائرة، وقد جرب وعاين ذلك، وسهر مرة مع صاحب له يسمى باسم مكان أول بيت وضع للناس، وأنزل سفينة حتى لامست الأرض أو كادت، وكان كل ليلة يريهم من ذلك، وتأتي السفينة مسرعة فيسأل من هم حوله: ما هذه، ويقولون تلقائيا: طائرة، فيقول لها: قفي مكانك، فتقف في الجو كأنما جمدت، ثم يقول ارجعي، فترجع، وينظرون إليه نظر المغشي عليه، ثم يأتي ملك النسيان فيُنسيهم، حتى حين.

وليلة سهر في مزرعة تلميذه محب، الذي كان كالشقيق له، وأراه ضوءا في السماء ساطعا، ثم دعاه فاقترب، ولما رأى التخوف في تلميذه قال سأجعلها طائرة كطائراتنا، وأمرها فتشكلت أمامهما طائرة، ثم طافت فوقهما، وحين مضت سأله مبتسما: لعلك تظنها طائرة بالفعل، فهز صاحبه المندهش رأسه، فأمرها أن ترجع لتطير فوقهم عن قرب شديد، ففعلت، ثم أمرها فاختفت.

وكان ليلة مع تلميذه ممدوح، فناداه وأشار إلى السماء، وكان صاحب القرنين قد استوى خلف السحاب وجعل السحاب كله على هيأته، وكان نور أزرق يسطع كلما أشار الغريب بيده نحوه، ثم مد يده للسماء فوقهم وقام بحركة كمن يفتح ستارا، فانفتحت السحب وظهرت كتيبة كاملة من السفن تتسارع بين النجوم بسرعة كبيرة، ثم أشار فانغلقت البوابة ورجع السحاب ونظر مبتسما لتلميذه وقال له: الأمر بسيط جدا، نحن فقط ننتظر الموعد.

ثم كان له موعد مع تلميذيه صادق وصدوق، وقد نظرا إلى تلك السفن المضيئة، وإلى كائن نور يسعى في السماء مسرعا، وإلى شعاع خرج من كف سيميال، أحد قادة الرخ العظيم، الذي طالما حياه مع كثيرين من القادة العلويين والجند المقربين بتلك الكرات النارية والنورانية الحمراء والخضراء والزرقاء والبيضاء، وقد شهد قلة مع الغريب ذلك، فنسي بعضهم وتذكر آخرون.

ومع اقتراب ظهوره كان تحكمه في تلك السفن وظهورها حوله لحمايته أكثر وأكثر وأكثر، حتى جاء الإذن بتصويرها ورسم مسار من التسوكيومي كان ممتعا جدا.

وخط يحمل قوة تتحكم في فيالق الأرواح المطلقة التي يتم تحريرها بختمة لتأخذ أشكال العناصر التي يمكنها التفاعل معها مثل هيئة من الرمل أو النار أو الحجارة، وقد تجسد أحدهم له في عاصفة قوية هبت بتمظهر سوريافيال صاحب الرياح وفيالقه، وكان واحد من تلاميذه يقود بسرعة كبيرة والغريب يقول له تمهل، ثم ظهر طيف متخذا الرمل شكلا وارتطم بهم وقد فتح فمه، وفهم الغريب الأمر بسرعة وأشار لتلميذه بالتوقف الفوري، ففعل، ثم نزلا ليعثرا على مسافة أمتار على شجرة اجتثت وسقطت في الطريق، وغصن كبير منها مقطوع بفعل فاعل كأنه رمح متجه إلى صدره مباشرة، كان العزم أنه سيقتله، ولم يكن الفاعل بشريا ليلتها بل أحد دهقانات كبير الشياطين.

وقوى أخرى لن يتم تفعيلها إلا عند الاكتمال.

ولكل قوة أرواح قادرة على التجسم الكلي، من تلك التي انفصلت عن الكائن الذي أفنى نفسها، والتي استعاد الغريب بعضها، في أيام عسيرة، وتجليات كثيرة، جعلت مشاهد كثيرة كان يشاهدها في الأفلام تتجسد أمام عينيه، وكان يفهم ويدرك ويكتم.

وكان يعرف أن ما طوي في سره وما أودع في جسمه هو أقوى من كل سلاح وأعتى من كل قوة في العالم الذي يعيش فيه، وأن أحدا لن يصدّق حتى لو أخبره بذلك أو جعله يعاين شيئا منه بعين رأسه، لأن ختمات النسيان والحذف والإخفاء كانت أقوى من عقول البشر مهما ظنوا بأنفسهم.

ثم حين عرف وغرف وانطوى في سر طوى، فهم أن على الأفعى بكل تشكلاتها وقواها أن تبقى خفية، حتى إن تجلت مرات، وأن الأمانة موكلة لدى العصا، وعليها أن تهش على الغنم وتقضي المآرب الأخرى، في انتظار ليلة الإلقاء، وأن تتالي فاء التسارع في خبر الكليم حين قال ربه فألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى، سيكون تجليه أشد سرعة حين تلقيه يد الحضرة في طوى العالم الأسنى وقد خلع نعلي الفناء والبقاء، حيث الفناء بقاء والبقاء فناء، وحيث تغيب أناه، ولا يبقى إلا مولاه.

وتذوب أمامه حدود الوجودين: الأفعى كوجود سابق، والعصا كوجود جديد، ليتم الدمج في ثالث لا هو الأفعى ولا هو العصا، وهو هما معا، يتجليان في موضع واحد.

 

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة