الأمة المعدودة من رواية الغريب

7 دقائق للقراءة

جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف يتصبب عرقا، وهو في وضعية اللوتس.

نزل التنين الأبيض الكبير بأعظم هيئة له مع فيلق التنانين، وكانوا بأعداد لم يسبق أن رآها، تتلألأ ألوانها وتهز أجنحتها العظيمة وهي تنفث اللهب والضوء والنور الملون، وظهرت معها تنانين أخرى بأشكال غير ما عرف من قبل، تنزل من فوق في غمامات من النور، والشجرة تهتز وقد اختفت أغصانها خلف السماء الهرمية.

ثم لفّ كل تنين وتحول إلى غيمة ضوء واستوى رجلا، وتمثّل في شكل شبيه بالبشر، ذلك الشكل العام الذي تتخذه كل الكائنات التي تملك وعيا وإدراكا ومهمات، إلا عددا منها فقد بقي على نفس الشكل، شكل التنين، على اختلاف أنواعه الشكلية.

وقبل أن يسأل التنين الكبير الذي تحول مجددا أمامه إلى شكل يشبهه كأنه توأمه، أجابه: إن التشكل عندنا ميزة خاصة بالكائنات الواعية، المكلفة بمهمات، ولها إدراك خاص بها، وهو على حسب مقام الكائن، سواء كان  نورانيا أو ناريا أو ظلماويا، أو أنواع مواد الخلق الكثيرة الأخرى التي سبقت بشري الطين، أو التي تعمر الملكوت.

أما ما يشبه الأنعام عندكم، فشكله هو ذاته لا يتغير.

بمعنى أنني أتخذ شكل التنين، وأتحول به فعليا إلى تنين، ولكني في جوهري غير ذلك، بل شكلي الأصلي هو الذي تراه الآن، وهو الذي خلق القدير عليه بشري الطين.

إنه الشكل الرسمي لنا جميعا، مع تغييرات في نوعية ذلك الشكل، لون العين أو نوعها، الأذنان مثلا أطول لدى كائنات النار، ليس طولا كبيرا لكنها مثلثة محدبة إلى أعلى، وهي عند كائنات الظلام أطول منها وقد شُقت من فوق، وأعينهم مظلمة تماما، في حين تتقد أعين كائنات النار، وتتلألأ أعين كائنات النور.

ولو أنك تعمقت في جوهري لوجدت أن بدني نور محض، وبدن مخلوق النار نار محضة، وبدن كائن الظلام ظلام محض رغم أن أصله نار، أما التنين الأسود والشياطين السجينة فهي من ظلام مع عناصر أخرى قوية شبيهة بمادة بيضة السماء الأولى، تلك المادة السوداء المظلمة المتراصة تراصا يفوق تراص النجوم التي تنطوي ذراتها للعمق ما يفوق به حجمي الحقيقي حجم عالمكم كله.

أما بدنك أنت فهو نور وهنالك أبدان من نار وأخرى من ظلام تكون في البشر مع أجسادهم التي يتجسدون بها وأجسامهم التي يتحجمون بها، فالبدن هيكل مواز للجسد كما تعلم.

وحين تتمثل كائنات النور في عالم الطين، فإنها تمتلك القدرة على التجسد الكلي، لكن دون تجسم، إلا ما يكون من شأن المعلم الأعظم الذي تخضر الأرض إن مشى عليها، فهو يتجسد ويتجسم كما يريد.

أي أن الواحد من كائنات النور حين تفتح له البوابة ويتجسد في العالم المادي البشري فإنه يكون في جسد ظاهري، والباطن نور لا جسم، فلا يمكن أن يأكل الطعام من عالم الأجسام.

والروح العظيم الذي تمثّل للصدّيقة نجيّة الملائكة بشرا سويا كان من عالم الروح والمثال، نورانيا، لكنه تشكل أمامها بشرا سويا.

وكذلك الثلاثة الكبار حين تمثّلوا أمام الأواه وأتاهم بعجل حنيذ، ولم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة، قالوا له لا تَوجل وبشروه بغلام حليم.

وقال أبشرتموني على أن مسني الكبر، وصكت امرأته وجهها وقالت عجوز في الغابرين، فمد كبيرهم يده فأخرج طاقة بيضاء أصلح بها جسميهما، وأعاد شباب الخلايا فصارت العجوز شابة وصار الشيخ كهلا، وهو أمر هيّن يسير على كائنات عالم النور والكمال، وأتم لهم القدير وعده.

ثم مضى الثلاثة الكبار ورابعهم إلى المتطهّر وابنتيه والقرية التي تعمل الخبائث في تجسد فتية على غاية الوسامة والجمال، وكان مكرا من القدير عظيما، كل ذلك كان تجسدا لا تجسّم فيه، أي أنهم لم يكن لهم أن يأكلوا من العجل الذي أتى به الأواه إليهم، ولا كان بإمكان أي سلاح أن ينفذ في تجسد أحد منهم، وحين خرج كبيرهم ومن خلفه ثالثهم قوة ومقاما، فقد تغير تجسدهم إلى تمظهر شيء من قواهم، فأشعت طاقاتهم وأعينهم، وظهرت القوة العظيمة الخفية، وتناثر كل شيء من حولهم.

وتحول البشر القريبون منهم إلى غبار كانفجار تلك القنبلة في كوكب بشري الطين، وقد أحاطوا قبل ذلك بالبيت ولم يسمعوا لنصح أو توسل حتى وقد عرض عليهم بناته وقال لا تخزوني في ضيفي، فما زادهم إلا هوسا وجنونا وعنادا.

ذلك المختار ابتلي بهم وكانوا يريدون طرده مع أهله لأنهم قوم يتطهرون، وقد سيء بضيوفه الذين تشكلوا فتية ظاهر الأمر حين رأى حسنهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، ونادى لو أن لي بكم قوة وهو واقفون خلفه فقال له كبيرهم وقد أشع نوره وتغيرت هيأته إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، ولم يصلوا إليه بسر قوة “لن” حين تكون من سر القدير.

وكان سبب هيجان القوم أن المعلم الأعظم ملك التقمصات ورئيس مخابرات الملكوت الذي رافق الثلاثة الكبار قد أفقدهم عقولهم وزرع فيهم شبقا لا قِبل لهم به، وهو يتقمص شكل عجوز بشع أحدب بصوت فيه بحة ورنين خاص له أثر تنويم، ويدخل ناديهم ليخبرهم أن في بيت المتطهّر فتية لم تر عين مثلهم، ويرسل طاقة حمراء تؤجج الرغبة بما لا يقدر إنسي ولا شيطان على تحمله، وقد نفّذ عليهم ختمة الوهم الأكبر، تلك التي لا يمكن لمن نُفّذت عليه أن ينتبه حتى تخرج روحه من جسمه، مع ما يكون من أختام على القلب والسمع البصر، فلا يشعرون بنور ولا يسمعون لنصيحة ولا يرون سوى ما ترسم لهم أوهامهم.

وكان يوم عذاب عظيم.

قال تايبنغ بصوت متقطع كأنما يبكي من هول من رآه، إذ أن التنين حين يحدثه لا يكتفي بالحديث، بل يريه ذهنيا كل مشهد يسرده له أو يصفه، وتسمى تلك القدرة بالإيحاء المشهدي، وهو غير الإيحاء المعنوي الذي يُترك لذهن السامع أو القارئ أن يتمثل المباني التي المعاني أو الصور التي في المشاهد وفق قوة التصور والخيال لديه: أي جلال هذا وأي مكر يا معلمي، لقد حضرت وشاركت في عدد كبير من الملاحم وعقوبات الأمم الباغية منذ أن تم تكليفي.

وقام ابني يوشين بإبادة مدينة فاسقة مستخدما حجر التنانين، وشاهدت قوة تلميذي لونغ حين دمر تلك المدينة بطاقته، وحضرت حرب كي تونغ مع التنين الأسود، وحرب المعلم الأعظم حين أنقذ كيريليان، ومع ين ويانغ وونغ تشون حين أنقذوا مملكة أبيهم، وشهدت يوم الظلة حين نزلت السفينة العظمى وحجبت الشمس، ونزل منها المبيدون الآليون، وكوشفت عن الطوفان الذي سبق ميلادي بألفي عام من أعوامنا، ورأيت غرق سبعين مليار بشري ونجاة سبعين فقط، رأيت الأنعام والبشر كبارا وصغارا ورضعا وهم في لجة البحر، الأعين الجاحظة والوجوه الغارقة والأفواه التي خنقها الماء.

ولكني لم أشهد استهزاء من القدير بقوم ومكر بهم حتى أغواهم عبده صاحب الختم اللدني بثلاثة هم أعظم وأقوى كائنات النورانيين، وقضى عليهم بعذاب لا يمكن تخيله، ولم أر مثل هذا العذاب والغضب والمقت.

أشار التنين بيده إلى الفضاء أمامه فظهرت مشاهد، نظر تايبنغ ورأى ما حدث بشكل أدق، وصوت التنين يصف له ما يراه: كل ذلك شاركنا فيه وصببنا من سفننا نارا ونحاسا، وضربنا بأسلحتنا، ونفخت التنانين من أوارها تحرق وجوههم.

ثم قلب كبير الثلاثة بهم الأرض واقتلع القرى وفجرها بقوته الجبارة.

وضرب ثالثهم بجناحه بقوة الصاخّة مع صيحة مزلزلة فتناثر كل شيء وانصهر.

وتشكل ثانيهم في هيأتهم العظيمة وسلّط عليهم راجفة قوية حولتهم ومنازلهم إلى كتل متراصة حتى انصهر الحجر في البشر والشجر مع الحيوان، وانصهرت المعادن بطاقته الجبارة.

وأبقى المعلم الأخضر عينات من ذلك شاهدا لمن يأتي بعدهم على قوة جند القدير.

أشار التنين ثانية بيده فانغلق ما كان يبث المشاهد في الفضاء، وقال لتايبنغ وقد نظر إلى عينيه بصرامة: إن كان هذا ما فعل جيش السماء بأمر مولاه بقوم يفعلون ذلك المنكر في ناديهم، فكيف سيكون عقاب من يأتون ذلك في كامل الكوكب، علانية، وبفخر، ويتخذون علم صاحب القرنين آمر الجيش السماوي، والذي يحمل مزيج رايات بقية الفيالق وألوانها، رمزا لهم، ويقولون للطفل أنت تختار أن تكون ذكرا أو أنثى، وللبنت الصغيرة مثل ذلك، ويصورون ما يفعلون من شذوذ ويأتونه جهارا.

بكى تاينبغ بحرارة، وهو يعلم أن تلك الأمة المعدودة قد ظهرت أخيرا، وأن الغريب سينفذ كل عقوبات الأمم السابقة التي تجددت معا في أمة الوعد الأخير.

ربت التنين على كتفه بحنان، فقال له: إن ما يبكيني ويؤلمني حقا مقدار الشقاء الذي كتب على معظم ذرية أبينا الأول، وكيف عبثت بهم الشياطين.

حكمة مرة كما كان يردد المعلم الأعظم، خاصة بعد أن قتل الغلام أمام عين الكليم. أجابه التنين.

وها قد رأيت كيف فعلت الأمم الهالكة، وحضرت في بعض مشاهدها وساهمت مع تلاميذك في بعضها، ولكن الأشد ما سيكون، حين يكتمل القائد العظيم، ويرجع الغريب إلى وطنه السماوي، ليحيي القدير ذلك الروح الأعظم الذي أفنى نفسه قبل مائة وخمسين عام من زمن البشر، أو ما يعادل الرقم أياما عندنا، وما يعادله من اللحظات في ذلك الأفق العالي، فالزمن مقادير.

ويكون قد مر حينها على آخر تدخل مباشر لنا في العالم البشري بتمظهر مادي كلي ألف وخمسمائة عام من أعوامكم، حين سلّط القدير فيلق سفن الأبابيل على صاحب الفيل الذي أراد قتل المحبوب في بطن أمه الطاهرة قبل ولادته بخمسين يوم، ولم يكن يريد فقط هدم البيت.

ثم اقترب التنين ووضع يده على رأس تايبنغ، فتسارعت إليه المشاهد، وتساقطت دموعه، قبل أن يسقط في دوامة النور، ويفتح عينيه في الكهف، وقد كانت دموع جسده أسخى من دموع بدنه.

كانت تلك من المرات النادرة التي بكى فيها أمام معلمه، أما في خلواته فقد كان كثير البكاء، أمر لم يكن بقية تلاميذه يعرفونه.

وكان يرى بكاء الغريب الذي كان يبكي حتى يغمى عليه، ويرى خشوعه كالنسر حين يناجي ربه، ويعلم أن الأمانة أثقل من أن تحملها الجبال، وكان مستعدا ليخدم ويساعد وفق ما يُؤذن له به.

ولم يشعر تايبنغ حين سرت إلى ذهنه مشاهد كانت محجوبة عنه، ليرى نفسه روحا تخرج من دائرة ضوء في كف الوحش الأعظم، وليدرك أنه من توائم الغريب، لكأنه هو، غير أنه شخص آخر.

وهذا فتح أبوابا للتآلف بينهما، لم يكن له أن يكون لولا نفحة من معلم أخضر الظل.

 

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
مجمع المنظرين من رواية الغريب
جلس تايبنغ في المعبد، واستمع لحوار رجال الوقت عن الخالق والبديع، وكان تعلمه للسان العربي أمرا لازما لأنها لغة السماء، ورغم أنه كان يطلع...
5 دقائق للقراءة