رواية المعلم والتنين المشهد الرابع عشر: ختمة النسيان

4 دقائق للقراءة

لا بد أنك جننت، ماذا، ختمة النسيان؟

إنها الوسيلة الوحيدة ليحقق نفسه، فابنك مدلل ولن تتمكني من ترك الدلال يا سمو الملكة.

كان الملك غاضبا تلك الليلة، فقد رأى رؤيا أفزعته، وعرف أن خطرا كبيرا يتهدد ابنه.

لكن أرض اليأس، ألم تجد مكانا آخر، أنت بكل قوة جيشك لم تتمكن من عبور تلك الصحراء وهزم الأفاعي التي تنتظر طفل النبوءة.

تريد أن تضع وحيدي في فك التنين الأسود.

نحن نتحمل ما أصابهم، هم يدفعون من أعمارهم لأجل سلامة ابننا وتحقق ما يجب، وكل ما في الأمر صبر خمس سنين.

لا أصبر رمشة عين ونبضة قلب وخفقة ريح ومرور غيم، فكيف أصبر كل تلك المدة.

لكن رغم توسلاتها فقد كانت تعلم أنه لا بد من تعليم ابنها الصبر والتواضع وكسر حدود الأنا، وأن عليه أن يواجه قدره حتى تستيقظ القوة المخفية فيه، والتي لا يعرفون عنها شيئا.

ختمة النسيان، طريقة قديمة من علوم الأول، نفذها الملك ببراعة وسرعة وهو يحرك أصابعه بما لا تلحقه نظرات زوجته، ثم وضع يده على رأس طفله النائم وقد بلغ الخمسة عشر ربيعا، ليستيقظ في كوخ فقير في أرض النسيان، بعد أن أوصله الملك مع ثلاثة من الحكماء بفتح بوابات القفز المكاني، حيث الأمير جيدان، صاحبه القديم وأمين سره، الذي سيقول له الحقيقة في اليوم المناسب.

 

لم يكن الملك يوما عاجزا عن عبور تلك الصحراء، ولكن أخذ جيش لا يمتلك نفس قواه، وإقحامه في حرب مع كائنات ليست من عالم البشر، مجازفة كبيرة وغير مضمونة.

كما أن ما يمتلكه من قوى كان إرثا عن أبيه الذي كان أشد منه قوة، ويمضي الميراث إلى الأب الأول، من علوم تعلمها من معلم تخضر الأرض تحت قدميه إن مشى عليها.

والأهم أن مناجاة الأرواح له في الرؤي كانت تخبره بما عليه أن يفعل، وكانت تطلب منه ترك الصحراء على ما هي عليه، لوجود حكمة بالغة.

وكان واثقا أن ابنه هو المعني بالنبوءة، وأن لكل زمن نبوءة ومنتظر تخفيه كف الأقدار عن أعين الأشرار الذين يبحثون عنه.

وكان موقنا أنه ولده الذي كان يتهم أمه بالإفراط في تدليله يمتلك قوة تفوق قواه وقوى آبائه إلى صاحب الطوفان.

وأنه سيقضي على تلك الأفاعي حين يبلغ أشده وتنفجر تلك القوى المخبوءة فيه.

تركه ورجع، احتضن زوجته ثم بشرها ببعض ما سرها وأسكن لوعتها، ثم أخرج لها كرة من البلور، لمسها فأشعت، ثم ظهر ابنها فيها، يغط في نوم عميق.

قال لها: من هنا يمكن أن تراقبيه وتطمئني عليه.

أمسك أناملها الرقيقة وأخذ يعلمها الختمة، كي تفتح مرآة الرؤيا بنفسها متى أرادت.

اطمأنت وعرفت لأول مرة أن زوجها ليس ملكا فقط، بل حكيم من حكماء العالم الكبار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عندما استيقظ كان عقله يعمل وفق ما تم تلقينه له، فالعقل قابل للاختراق، والوعي قابل للتلاعب.

وما تراه العين أو يشعر به الإنسان يمكن زرع التخييل فيه، أو الوهم، أو التوهم.

لقد كانت تأتيه بعض الآلام ليلا، صداع عنيف، يرى نفسه يسقط من مكان مرتفع، ويرى قطعا سوداء تتراص ثم تنفصل.

كان ذلك يؤرقه ويؤلمه، كأن عقله الباطني يريد أن يوصل إليه رسالة، لكن ختما ما كان يمنعه.

وكانت تراوده الشكوك في كل شيء، حتى رآها في ذلك الاصطبل، فشغلت لبه، وسلبه قلبه، وتملكت حبه.

ووجد في عشقها أنسا لوحشته، وأنيسا لوحدته.

قال لتلميذه تشو وهو يذكر ذلك: العشق له سر غريب، إنه يعيد ترتيب الذات، أو يبعثرها تماما.

وعشقي الذي سرى في داخلي حين كنت غائبا عن حقيقة نفسي كان نورا أضاء في عتمة، وقبسا اشتعل في ظلمة، فوجدت كلي ينشد إلى كلها، وبعضي ينفك مني إلى بعضها.

ابتسم تشو بخجل، لم يتصور أن المعلم عاشق وامق ومشتاق دنف.

 

كانت ختمة النسيان من ختمات الكائنات العليا، وقد تم تسريب بعض قواعدها عمدا للظلاميين.

فللختمة وجوه كثيرة، منها ما يكون رأفة بمن لم يتمكن من نسيان عزيز فقده بموت، فتأتي تلك الختمة تمحو أثر الميت في المكان والزمان والذاكرة، أو تقلل من تلك الآثار، لكن بعض البشر لا يمكن محو آثارهم، ويبقى الزمان والمكان شاهدان شاخصان محدثان منبئان عن عظيم كان ثم انتقل.

ولها وجه يكون في السلوان، لقلب مزقه فراق ونوى، بعد وصال وجوى.

ومنها ما يكون قهريا يختم على القلوب فتنسى القدير، ويختم على البشري فينسى المصير.

ومنها السفلي الذي فيه نسيان الأشقياء للأجل، وتناسيهم لما سيكون حتما، ومضيهم في غرور الفناء، وغرقهم في فتنة دار البلاء.

ردد المعلم تلك الكلمات على تلاميذه وهو يحدثهم عن شيء مما كابده كي يكون معلما لهم وكي يبلغ تلك المرتبة.

لكل منحة محنة على قدرها يا أبنائي.

ولن تجدوا سيفا تمت صناعته بريش النعام، بل لا بد من مطرقة عظيمة وسندان شديد ونار متقدة وعذابات عمر من الصبر والتضحية والاستمرار.

 

لخمسة أعوام لم يذكر من حياته الأول شيئا، ولخمسة أعوام ظن أن أمه ماتت وأنه ابن رجل فقير، ولأربعة أعوام عمل في اصطبل عاشقا لأميرة، حتى انفجرت قواه أخيرا.

إنه سيف من تلك السيوف المضيئة في لوح القدير.

سيف قد نسي حقيقته حين خالط الأرض، ثم نزعت عنه نار الامتحان، ختمة النسيان.

منشورات ذات صلة

رحيل الحكيم مشهد من مشاهد رواية ولي الله
في غرفته الصغيرة المطلة على البحر، جلس حكيم يتأمل الأمواج التي تأتي محملة بالشوق لتنكسر على الشاطئ بسعادة غامرة، وقد تأتي بها العواصف فيتملكها...
4 دقائق للقراءة
قصة الجميل مشهد من مشاهد رواية ولي الله
لقد كان ذلك الطفل الجميل آية من آيات الله. ورأى الرؤيا، وقصها على أبيه، عن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، له ساجدون. وعرف الأب...
9 دقائق للقراءة
قصة آدم مشهد من مشاهد رواية ولي الله
كان المعلم يحرص على تربيتهم، فقد خبر البشر وخبر من كان قبلهم، وعرف العوالم كلها، واختار بأمر ربه تلاميذ يعلمهم، وتنانين يدربهم. وبعد أن...
5 دقائق للقراءة
في جبل التنين مشهد من مشاهد رواية ولي الله
على امتداد مقامهم معه في تلك الجزيرة النائية التي لا تصل إليها السفن إلا إذا انفتحت بوابة خاصة تتم تغطيتها بعاصفة ودوامات مائية، كان...
7 دقائق للقراءة
عقل الكون مشهد من مشاهد رواية ولي الله
بعد أن نزع المعلم الثعبان الذي كان يحيط بقلبه، وقطع نصف نفسه الأمارة، أدرك صالح عمق الهوة التي كان فيها، وأنه كان سيهوي في...
4 دقائق للقراءة
فخ المعاينة مشهد من مشاهد رواية ولي الله
الإلحاد النفسي ردة فعل غاضبة، وهم تظنه حقا، والحقيقة أنك لست ملحدا، فقلبك موقن، ولو سألته لحدثك عن يقينه. وعقلك المتشكك يساير نفسك، ولو...
3 دقائق للقراءة
مشهد من رواية ولي الله: العاشق
#هدية #مشهد_من_مشاهد #رواية_ولي_الله #العاشق قال عقله: ابنة سلطان مع ابن مزارع، النتيجة المنطقية الوحيدة: زوجة أمير آخر، وشاب معلق على سور المدينة. قال القلب:...
3 دقائق للقراءة
رواية ولي الله المشهد الثاني
#هدية_لأحبابنا #رواية_ولي_الله #المشهد الثاني (مشهد يؤسس للرواية ككل، حدث قبل المشهد الأول بمدة يتم اكتشافها في الرواية)   جزيرة نائية، لا تصل إليها إلا...
2 دقائق للقراءة
رواية ولي الله المشهد الأول
  (رغم قصره فهذا المشهد سيحدد مسار الرواية السابق واللاحق له، اترك لكم تخيل بقية الرواية، وربطها بالرواية التي سبقتها، والتي تليها)   كانوا...
2 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الأخير: نهاية النهايات
وقف التنين الابيض الكبير ملك تنانين العوالم، والعالون جميعا، من خلفهم جيوشهم، في مجمع الارتقاء، فوق السبع الطباق، يشاهدون بوجل نهاية النهايات، وفي قلوبهم...
6 دقائق للقراءة