رواية المعلم والتنين المشهد الرابع: التنين الأبيض الكبير

4 دقائق للقراءة

لقد وُجدت تنينا.

لم أعرف من أين أتيت، ولا من أكون، أو كيف وعيت بذاتي وعرفت نفسي، كأني كنت مخلوقا آخر ثم تشكلت في كائن جديد.

فتحت عيني في واد شاسع، فيه شجر كثير، في كل شجرة ثمار لا أحصي لها عددا، كل ثمرة كالبيضة، فيها أجنة تنانين ملونة، مكثت أحرسها زمنا لا أحصيه، لأنه كان قبل أن توجد الأعوام وتولد الأشهر والأيام.

وفي فجأة لم أعرف كيف أتت ومن أطلقها، هبت ريح قوية على الأشجار، وتشكل سحاب أسود تزمجر رعوده وتلمع بروقه بشدة، اهتزت الأشجار فوقعت ثمارها البيضية وتشققت، وخرجت ملايين التنانين، أصابها البرق الملون كلٌّ حسب لونه، برق أحمر وأخضر وأزرق وأصفر ووردي وبنفسي…ثم ضربني برق أبيض اخترق نوره هيكلي وتوغل في روحي فرأيتني في شكل غير ما ظهر مني، انتفضت بقوة وتحولت إلى رجل.

تلك التنانين اتخذتني لها أبا، وعاملتها كأبنائي، علمتها الطيران ونفث اللهب وتحرير النور، ولكن شيئا واحدا لم تتمكن منه، التشكل كما أفعل في شكل رجل يمشي على قدمين، فعلمت أن ذلك فرادة لي ليست لهم، ولكني رأيت مرسوما داخل كل بيضة صورة لرجل واسمه، وفي أكبر التنانين كان سبعة لا يشبهون البقية، وكنت أرى فيهما أطياف محاربين أشاوس ومقاتلين بارعين.

حين أتشكل كرجل أتقن فنون القتال بهيأتي الجسمية تلك، وأحاكي حركاتي وأنا في شكل التنين، فبنيت فن التنين الأبيض، وتخيلت حركات بقية التنانين فبنيت لكل نوع ولون فنا خاصا ضمن التمظهر الذي فهمت بعد زمن أنه الشكل البشري.

كنت أتمثل بشرا ولم أكن ببشر، وكنت على شكل التنين ولم أكن تنينا، كنت مزيجا بينهما، وكنت في الأصل كائنا آخر نسيت من يكون، ولم أعرف طيلة الدهر الذي عشته من أين تأتيني المعاني والكلمات والمعارف والمشاهدات، حتى انقضت علي سحابة رفعتني إلى جبل الخلود وسمعت حكمة الشجرة تحدثني عما فوقها من عوالم، وعن العالم الذي أتيت منه لأنجز مهمة تستغرق هناك لحظات وتستغرق في عالمي دهرا وتستغرق في عالمكم الدنيا بأكملها.

كنت أستكشف عالمي الجديد، قبل أن أكتشف قدرتي على الطيران، حتى حلق بي جناحاي بسرعة فوق الغيوم البعيدة، وهنالك فوق الغابة الكبيرة وخلف الجبل، رأيت شجرة واحدة لم أكن أعلم بوجودها.

كانت من الدخان الأسود، فيها بيضة سوداء، داخلها تنين أسود قاتم السواد.

لم يكن أول تنين أسود أراه فقد أنجبت الأشجار تنانين سوداء طيبة نورها أسود تختص في الحماية والمهمات الخاصة. ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها سواد الشر، وقوة الظلام.

لقد أحرقت الشجرة الملعونة مرارا فلم تحترق، كأن قوة قدر غامض تحميها، لكن حين ولد منها التنين الظلامي، تلاشت من تلقاء نفسها، ورأيت فوقها في أفق السماء الهرمية وجوها تبتسم، بألم كبير.

لم يكن ذلك التنين سوى نسيج من المقادير المحكمة، فعوالم الجحيم ستستدرج إليها أصحابها، والتنين الأسود الظلامي مفتاح ذلك.

 

ذات دهر من دهور عالم التنانين تشققت البيضة وتمايلت الشجرة، وسقط الأسود في هوة سحيقة أرسلته إلى أودية الفناء والتيه والضلال، حيث مكث سجينا ينتظر من يحرره، وكان يتواصل مع ضحايا كثر يغويهم تخاطريا.

وفي ذلك العالم المظلم تشكلت تسعة أطياف، أطياف الشر القديم، التي كانت تسكن مغارات مطلة على الجحيم.

لقد راقبت الكثير من المفتونين والملعونين وما فعلوا في عالم الفناء.

ولقد رأيت آخر المصابين بلوثة السواد، كان مخلوقا ناري الأصل صعد ثم هوى لحسد تملك قلبه حتى أصبح هو الآخر طيفا من أطياف الظلام، أنجب أعدادا كبيرة من كائنات الدخان الأسود التي يسميها البشر شياطين.

ثم كان الأول من آباء البشر الأخيرين، والأخير من خلفاء عالم الفناء بعد آباء كثر كانوا قبله في الكون كله وما فيه من كواكب، قبل الاندثار بعد استحكام الشر.

ومن بداية خلقه، تجددت الحرب بين النور والظلام في قدر محكم.

ونزل الأرض بعد أن عاش مع كائنات النور، وكان بعض ذريته من نصيبنا، ومن نصيب النسر الفضي والنمر الذهبي وبقية قادة العالم العلوي، أي كانت قلوبهم لنا، وكانت أسماؤهم مكتوبة في لوح السعداء.

أما معظم ذريته فقد كانت أسماؤهم في لوح الأشقياء، وكانوا خدما لأنفسهم المظلمة، ولشيطان النار وذريته، ورأيت كيف كان بعضهم ملوكا فطغوا، وكان آخرون أصحاب قوة وحضارة بغوا، وكان غيرهم أصحاب مال ففتنتهم أموالهم، وكان مستضعفون يتبعون الشرير ويرفضون أصوات النيرين.

ونزل من السماء على كل حضارة نور، مع واحد من المختارين الذين كتبت أسماؤهم في لوح خاص بذوي المقام العالي.

فصدق قلة وكذب كثرة وكان الامتحان ففاز من فاز وخسر من خسر.

وما يزال الأمر حتى يكون الختام.

أن تكون معلما في فنون النور فهو شرف كبير وأمانة عظيمة.

لكن الألم الذي يكمن وراء ذلك ألم كبير، وسيكون عليك تحمل الكثير من الأسى والغضب حين ترى الشياطين تتحد بالبشر فتقتل وتفتك وأنت لا تحرك ساكنا رغم قواك الكبيرة وقدرتك على إفناء حفنة الظلم بحركة من يدك.

وكذا حالنا وحال أهل العالم الأسنى والأعلى، لأن الأمر لا يتعلق بما نريد، بل بحكمة القدير فيما يريد، ولا نتدخل إلا بالإذن، وكذلك لن تتدخل أنت إلا بإذن وتفويض وتصريف، مهما كانت قسوة ما ستراه، لن تتدخل حتى يتم فتح الباب لك، وستشاهد وتتابع وتختار تلاميذك، وستعلم كما أعلم. وستحزن.

لأن العلم بالمقادير وحقيقة ما كان وما يكون مصدر حزن عظيم.

 

منشورات ذات صلة

رواية المعلم والتنين المشهد التاسع عشر: يامُوتو
تكمن القوة الحقيقية في الوعي بالضعف، ومهاجمة نقاط ضعفه فينا، فكم يخاف ضعفنا من أن نسترد الذاكرة، ونعلم كم نحن أقوياء. غرورنا، هواجسنا، ورغباتنا...
7 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الثامن عشر: في برزخ التنانين
كان قد بلغ الأربعين من عمره، وأصبح ملكا مكان أبيه، وأعظم مما كان يتصور والده، الذي تنازل له عن العرش بابتسامة كبيرة ووضع بفخر...
5 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد السابع عشر: يان، يوشين، ويوجين
يذكر أهل أرض اليأس التي أصبحت بعد ذلك اليوم أرض الأمل وأينعت وانفجرت الصحراء من حولها ينابيع واخضرت وأزهرت، واحترقت الأفاعي ورحلت أطياف الشر،...
3 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد السادس عشر: مايسان وزهرة البلور
ليس هنالك ما يمنع تصديق أي شيء، ولا ما يمنع تكذيب أي شيء، والأمر متصل بالحجة والدليل. كانت هذه كلمات الأمير يحدثه عن قصته،...
5 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الخامس عشر: سَفَرْدايِمْ
حين مات الملك الشيطان كما كان يسميه شعبه: سفاريم، وأثناء جنازته، لما كانوا يهمون بحرق جثته كما هي العادة عندهم، وبمجرد أن اشتعلت النار...
3 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الرابع عشر: ختمة النسيان
لا بد أنك جننت، ماذا، ختمة النسيان؟ إنها الوسيلة الوحيدة ليحقق نفسه، فابنك مدلل ولن تتمكني من ترك الدلال يا سمو الملكة. كان الملك...
4 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الثالث عشر: شينوبي
في قرية مخفية من قرى المرج الأصفر التي ينادى فيها البان، في منتصف القرن السابع عشر من تقويم الحضارة الأخيرة، جلس المعلم مع تلاميذه....
3 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الثاني عشر: تْسُو مينغ.. ذئب الريح
إنها أرض اليأس، حيث لا شيء سوى الظلال الكئيبة والبؤس والجفاف. وحولها تمتد صحراء المتاهات الألف، والتي لم يعبرها أحد مطلقا سوى “ذئب الريح”،...
4 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد الحادي عشر: سَلانْدَرْ
لم يكن سلاندر ملكا عاديا، بل كان الملك الذي تنازل عن عرشه طوعا، وترك كل شيء، وانضم للمعركة كجندي تاركا قيادة جيشه لوزيره، وتاج...
3 دقائق للقراءة
رواية المعلم والتنين المشهد العاشر: هُو لاَوْ
كان من بين الفانين الذين تمكنوا من رؤية التنين الأسود، وامتلاك شيء من قوته، ذلك الشاب الذي خسر حبيبته لأن زعيم قبيلة الجذع رغب...
6 دقائق للقراءة