قطار الحياة من رواية الغريب

6 دقائق للقراءة

 

وقف صاوديريان المشرف على البحار فوق صفحة اليم، ونظر إلى الغريب.

وقف الغريب خلف بلور ذلك المطعم المجاور للشاطئ، ونظر بعين روحه فرآه.

سأله بعض من كان يسهر معه في تلك الليلة: ماذا هناك.

قال: إني أرى ملك البحار يعلّم السمك التسبيح، وقد قال لي: كثر الخبث في هذه المدينة، وقد أتاني الأمر لأرفع الموج ثلاثين مترا وأضربها.

فأجبته: ما كان لك أن تفعل وأنا فيها.

قال الملك: ما أفعل إذا.

فقلت له: ترفع الموج ثلاثة أمتار فقط، ثم تعبر به الشاطئ والطريق إلى هنا، قرب قدمي، ولا تلمس البلور.

نظروا إليه وأعينهم تقول كلاما كثيرا، ولم يكن أحد منهم يدرك أن المتكلم هو الغوث الأكبر، وحضرة المخلص العظيم، الذي أوتي ختم الغوثية حتى قبل الاكتمال، إلا أنه لا يستخدمه إلا عند قصوى الضرورات.

في الصباح كان الغريب مع تلميذه مخلص في رحلة جديدة من رحلات عديدة، ومهمات كثيرة، في فترة حرجة خطيرة، وجاء اتصال، وهتف هاتف بصوت تبدو عليه الصدمة والاندهاش: لقد تم الأمر أمام عيني، ارتفع الموج ثلاثة أمتار، أقسم لك، وعبر الشاطئ والطريق ووقف أمام مطعمي، أمام البلور حيث أشرت أنت، عند قدميك كما قلت.

رد الغريب بصوت هادئ: لو صدقتني في الليل، ما استغربت في النهار.

 

ولقد كانت للغريب مواقف كثيرة، مكن له ربه فيها من تفعيل ختم الإغاثة، إلا أنه كان يطوي ذلك ولا يذكره، ويمضي في طريقه العسير الطويل بصبر، فلا يجد متسعا ليلتفت لما كان، أو ليرنو نحو ما يكون.

وكانت له مع البحر والأرواح التي تحف به أخبار وأحوال، وأيام طوال، وليال من الغربة والتشريد والعشق المحرق الزلال.

لقد نام على ذلك الشاطئ مرارا لا يحصيها، وكان يشير إلى الموجة فتأتيه وتقف عند الخط الذي يرسمه لها على الرمل، وكان يناجي البحر نثرا وشعرا، وكان يتدرب في لجة الماء تدريبات قاسية في البرد وممتعة في الصيف.

وحين أمره كونيسترا بالوقوف في وجه موجة عظيمة تضربه، تعلم درسا بليغا في الصمود، وحين كان يواجه الأمواج في الخريف قرب تلك الزاوية التي تطل على البحر لذلك الولي الذي كان قائد سفينة حربية ثم اختلى وأصبح من رجال الوقت، كان يواجه مخاوف نفسه وصعوبات حياته، ويرى أن له مع البحر صلات لم يدرك منها إلا القليل.

وقرب ذلك المقام جرب من صنوف الجوع والفقر والخصاصة والصبر ما بقي نقشا في قلبه، وما كان فيه شحذ لعزمه لا تفله الأعوام.

 

 

تذكر الغريب وقد واجه تلك الموجة العاتية العالية التي ضربته مرتين ولم تزده إلا ثباتا، مواجهة أخرى كانت على غاية القوة، وكانت لتكون فيها نهايته لو كان من عموم البشر.

فقد صعد ذات مرة مع ابن خالة أبيه إلى قنطرة عالية، فيها سكة وتحتها واد سحيق، ثم نسيا بتخدير من أحد السفليين، وأقبل القطار.

كانا صبيين لم يجاوزا الرابعة عشر، وأخذ ابن خالته يصرخ ثم وجد ركنا في السياج الحديدي فاختبأ فيه وغطى وجهه وتكور جسمه وهو يبكي.

أما الغريب فقد وقف بعد أن أمسك بالسياج ونظر صوب القادم المدوي الذي أخذ يعوي بصافرته كذئب عجوز، وكانت السكة تتجه مباشرة إليه قبل أن تلف، ورأى القطار بكل سرعته وصافرته القوية يسرع إليه، كأنما سيدهسه، وتحته الهاوية تدعوه إليها.

لكن الصبي لم يخف، وحدق فيه جيدا كما يحدّق شهيد في قدره، أو محارب عظيم في جيش يقبل نحوه.

قوة الهواء صفعته وثنت وجهه للجهة المقابلة، فأعاده وبدأ يحصي عربات القطار حتى مر مسرعا مدويا لا يلوي على شيء كأنه ثعبان كبير يزحف من فوق جبل، وحين نزع يديه من الحديد وجده قد تحول إلى عجين تحت أصابعه.

كان ذلك كذلك، ولم يكن في الأمر مبالغة أو وهم أو خيال.

تلك الشجاعة العجيبة التي تتمهظر عليه، ذكرته بالأيام التي كان يكلفه أبوه فيها بتحديات الظلام، وبكوخ جد أمه المهجور، والشجرة العالية التي كسر غصنا كبيرا لا يمكن لطفل في عمره أن يكسره، وجره إلى بيتهم، ليضحك الأب وقد راق له الأمر وفاجأه كثيرا.

وخلف تلك الشجاعة كانت روح وحشية عظيمة، وقلب فارس لا يشق له غبار، ودم قوم لا يخشون إلا بارئهم.

وكان النمر بيهاردن قد سارع واتحد به في تلك اللحظات، لأن شبح الموت كان حقيقيا، والخطر كان داهما، إما السقوط من القنطرة العالية، أو أن يجذبه القطار تحت عجلاته.

لكن قطار الحياة فعل، وقنطرة الحب أسقطته مرارا من فوقها، وتهشمت عظام قلبه، بألم، ألم شديد.

تلك الليالي التي كان ينام فيها في شوارع المدينة وقت البرد والزمهرير، وفي شواطئها، حيث كان لا بد من ذلك الامتحان.

وعقله الذي كاد أن يفقده، أو فقده ليستيقظ العقل القديم فيه.
بل وأمْر غوث له مرة أن يمضي ويتسوّل، بعد صلاة الفجر، فنهض وفعل، وكان لا يعصي له أمرا، على بينة واقتناع.

وحين مد يده وقد أغمض عينيه، وهو الذي ورث عزة النفس عن آبائه، جاء شيخ فمد له شيئا من مال، وأتى شاب ففعل مثل ذلك، ثم قال له غوث: انهض الآن ومد يدك بنفس الانكسار إلى مولاك.

وظل يظن أن من قدما له ذلك المال كانا من رجال الوقت تجسدوا له كما فعلوا أكثر من مرة، وكان قد عرف وغرف.

كل ذلك وغيره جعله يتعلم الدرس جيدا، ويدرك أن قطار الحياة الذي سيركبه ليس كغيره، بل هو أفعى مجنونة مكلفة بتحطيم كل ذرة منه، لأن في انكساره انتصار كائن يسكنه، وفي تحطيمه إعادة بناء مخلوق عليه أن يكونه.

 

ومن العجيب أن كل تلك القسوة عليه ولّدت رأفة لديه، فمن عادة البشر إن قست عليهم الحياة يقسون، وتقسو قلوبهم مما كانوا يقاسون.

وقد كانت له مواقف ومشاهد في ذلك القطار الغريب، يذكر بعضها ويُنسّى بعضها حتى حين.

كان يصعد مرة قنطرة في مدينة حامي البر التي أحبها وأحبته، فوجد صبية تبكي.

مد يده ليمسح دمعها فقد رآها من بناته، عرفتها روحه بسرعة، ورأى أنها من دم المحبوب.

ضربت الصبية الشقراء يده، فمدها ثانية.

ضربتها فردها إلى خديها يمسح دمعها فأنزلت يدها باستسلام كأنما سرى نوره فيها.

سألها: ما يبكيك؟

قالت: أبيع الحلوى لأشتري دواء لأمي، وقد اقترب الظهر ولم أبع شيئا.

قال: كم ثمن دواء أمك.

أجابت مبلغه كذا.

فأعطاها المبلغ، وهو الفقير دائما والذي لا يُسمح له بالعمل وتتبع الدّنيا بل تكفلت السماء برزقه، وكان قد وصله مال من تلميذه موقن.

ثم سألها: وهذه الحلوى ما ثمنها.

أخذت الصبية تحصي عدد الحلوى وتحسب ثمنها. ثم أخبرته فأعطاه ثمن تلك الحلوى.

بحثت عن كيس، وأتت به فوضعت الحلوى فيه.

نظر إليها وتظاهر بالغضب وقال: أنت ماكرة.

أجابت ببراءة وقد لمعت عيناها: لماذا.

قال: أنا لو أكلت كل هذه الحلوى سأموت، هل تريدين قتلي. خذيها وبيعيها غدا.

حين نزلت الصبية درج القنطرة مسرعة ثم التفت إليه بعينين مبتسمتين وثغر بسّام، تمزق قلبه.

قال مناجيا ربه: اللهم إن ذنوبي أثر جاموس على الوحل.

وإن هذا منديل حرير، فلا تغسل لي به ذنبا، ولا تستر لي به عيبا.

واجعله هدية لمحبوبك.

في الليل جاءه غوث ورجال الوقت وقالوا له: نريد نصيبنا من المنديل.

كذلك قد كان.

 

 

ومرة بعدها في برد الشتاء وقد ترك المكان المترف لأن من طلب منه بعض الفاكهة أتاه بكثير منها وهو يقول أنت ضيف سعادته، فغادر لأنه شعر أن ذلك المكان الراقي وما فيه مما رآه ترفا سيسلب بريق روحه وتخمد سر قلبه.

تركه ليكون في غرفة فقيرة يستحم فيه بالماء البارد في الدرجة الخامسة تحت الصفر، ويخرج من جسده البخار ككل مرة، بسر طاقة حمراء قوية يتم تفعيلها فيه، وكثيرا ما كانت تفيض وتسبب له حرارة مرتفعة عانى منها لسنوات، وظمأ ليليا قاسيا.

وحين كان يمر بجانب المتحف العسكري، ليذهب إلى حيث يتواصل فيه مع تلميذه مُلهم الذي يحاوره الساعات الطوال، كان يجد طفلة جميلة لم تتجاوز السادسة من العمر، وضاءة المحيا بهية الطلعة، تحمل ميزانا، يدفع الناس لها بعض المال بعد أن يزن كل واحد منهم نفسه.

وقد أحبها الغريب وعرف نسبها وسببها وأنها من بناته، كان يقول لها كلما رآها مبتسما أو ضاحكا: أنا لست راسخا في الميزان، ويتمايل بجسمه ثم يتظاهر بالسقوط، وكانت تضحك كلما رأته، وكان يناديها: ابنتي. ومضت أيام على ذلك.

ذات ليلة باردة استلم مبلغا جديدا أرسله تلميذه موقن، الرجل الواثق السخي الذي عرف سره منذ أول نظرة، وكان يسميه شيخ المستحيل، لأنه لم يره يوما يستغرب شيئا فعله أمامه، حتى حين حرك رمال الصحراء وأمرها فشكلت أربع دوامات كبيرة تطوف قرب هرم داريوس الأول.

كان المبلغ جيدا، يكفيه مؤونة أشهر، فكل ما يحتاجه شيء من طعام وسكن، رغم أنه لو أراد لأقبلت الدنيا، ورغم أن كبار تلك البلاد كانوا يجلونه ويحبونه، لعلمه وبركته، وقدراته العجيبة وكراماته الكثيرة التي سمعوا عنها وشهد بعضهم نفحا منها، وقدرته على العلاج لما استعصى على الأطباء علاجه، لكن كل ذلك لم يكن يعني له شيئا.

حاور تلميذه ملهم لساعات، كتابة، وكان كثير السؤال شغوفا بالعلم، ولم يكن يبخل عليه.

خرج وقد عمّ الظلام وأطبق، وضرب برد الشتاء بقوة.

وحين مر قرب المتحف العسكري وجد الميزان ولم يجد البُنية الصغيرة.

قال: أين ابنتي، وبحث عنها بلهفة، ليجدها بين السيارات وقد نامت بعد أن ثنت جسمها ووضعت وجهها على ركبتيها ويديها من فرط البرد.

تمزق قلبه، فأخرج كل المال الذي أرسله إليه موقن، أوراق عجنها بيده كأنما يمسك أوراق شجرة يابسة، ولو كان يملك مال الدنيا لوضعه في يده حينها، ثم لمس رأسها وناداها ليوقظها، استيقظت الطفلة وقد احمر خدّاها، خافت أولا ثم لما عرفته ابتسمت بمحيّاها الجميل، مد لها المال وقال خذي يا ابنتي، ثم قال في قلبه: ربّ اجعل هذا هدية خالصة واصلة إلى أمي وحبيبة قلبي زهراء.

أخذت الطفلة المال منه بدهشة وابتسام وحياء.

سألها: ما اسمك يا ابنتي، ولم يكن سألها عن اسمها من قبل.

قالت: اسمي زهراء.

وأمضى الغريب ليلته باكيا، حتى خشي غوث عليه، وطلب من راسيليان وقطب أن يغيثاه بما يسكن لوعته.

لكن لوعته لم تسكن أبدا…

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة