رواية المعلم والتنين المشهد الثامن: التنينة الأم تايلا

4 دقائق للقراءة

أثناء فترة تعلمي لآليات ذاتي وأسرار ما تم إيداعه فيّ، كنت أطير بين الغابات والوديان في ذلك الكوكب الدري الذي وجدت نفسي فيه فجأة.

ومن حولي كانت الأشجار تتمايل بثمار تحمل أجنة التنانين.

ذات خفقة جناح وجدت مخلوقا غريبا كبيرا بطيئا يزحف على الشاطئ.

قال لي دون أن ينطق: أنا سلحفاة.

قلت دون أن أتكلم: وما السلحفاة؟

لم أعرف من أين أتيت بلغة الصمت التي قلت بها المعنى دون حاجة للكلمات، ولم أكن أعرف عن التخاطر الروحي شيئا، ولا كنت تذكرت اللغات التي حفظتها روحي قبل الزمن الأول.

قلت: ومنذ متى تزحفين هكذا.

قالت: مليون عام، ومليون آخر عشته في عمق البحر، ومليون قبله كنت فيه في غير هذا الكون وسوى هذا الكوكب وعلى غير هذه الهيأة التي ترى.

سألتها: وما المليون؟

قالت: عدد.

قلت: وما العدد؟؟

قالت: وحدة للأرقام نعرف بها المفرد وتعدده.

فكل شيء في هذا الوجود وفوقه مرقّم معدود محسوب بدقة لا تغادر كبيرة ولا صغيرة.

وكل ذلك نبع من الرقم الأول المفرد الذي لا يقبل التثنية، والذي جعل رقما وجودا، ثم جعل منه صفرا عدما، ثم فجّر في الصفر أرقاما، لتكون أكوان وكائنات ومكونات وكينونات وكيانات.

قلت: وما العام؟

قالت: ذكر السنة.

فهو يعم ويعوم في الزمان أياما وشهورا، وهي تمضي في سن ينتقل فيه العمر من مرحلة إلى أخرى، وهذا لكل شيء إلا الواحد الأعظم الذي لا يحصره زمان ولا يحده مكان.

إن العام أيام تمضي وساعات تمر وأعمار تنقضي، وسحابات تعبر، وشموس تشرق وتغرب، وليل يدلهم ويحترق، ونهار يضيء ويموت، ضحكة رضيع وابتسامة شاب وصبر كهل وأنات عجوز.

لكنك في عالم ليس فيه شيء من ذلك، إنما سيأتي اليوم الذي تراقب فيه ذلك العالم المليء بالفناء والقتل والفوضى، المنقوع في الشر المبتلى بالفتن، وسيكون لك دور كمعلم لمعلم، لتولد ملحمتكما: ملحمة المعلم والتنين.

لا أظن أنك مجرد سلحفاة، ماذا تكونين وكيف تعرفين كل هذا.

ابتسمت ومضت بطيئة وئيدة تسعى على الرمل.

لحقتها بسرعة، لماذا انت بطيئة؟

من كان لديه ملايين الأعوام ليعيشها فعليه أن يبطئ السير، لا شيء لأستعجل عليه.

اما الذبابة فتسرع لأنها تعيش ساعة، والثانية من عمرها كالألف عام من عمري.

أعتقد ان الفانين يسرعون كثيرا لنهايتهم، يتسارعون تسارع الذباب، في حين تسير أرواحهم ببطء السلحفاة على شواطئ الخلود.

لم أكن دائما سلحفاة كما تراني الآن، أبدا، فقد عشت الأزمنة وجبت الأمكنة وتنقلت بين الأشكال والذوات والصفات.

كنت سحابة وتعبت من الترحال، ثم صرت سمكة فنسيت كيف أغير شكلي حتى ضربني الموج وغضب مني البحر.

ثم حولتني ملكة الجنيات الى عروس فاتنة، أغرقت ما لا يحصى من البحارة في عوالم شتى، ثم عاقبني ملك أرواح الليل وحولني إلى صخرة تجثم على الأرض ولا تفعل شيئا سوى الانتظار، ثم أشفقت علي الشمس فحولتني إلى طائر سريع جدا طار وطار حتى القت به عاصفة ضوء فوق جبل الخلود.

هنالك أكلت من تلك الثمرة، وعرفت أن الحركة واللا حركة سواء، وتعلمت كيف تنتقل وانت في مكانك، وكيف تملك كل شيء وتزهد في كل شيء، حتى لا يملكك شيء ولا تملك أي شيء، ولا تحتاج لشيء وعندك كل شيء.

هنالك حيث تكون معه، وتكتفي به.

فاخترت ان اتحول الى سلحفاة، وتخلصت من حزن السحابة وذاكرة السمكة وغواية عروس البحر وجمود الصخرة ولهفة الطائر.

وصرت أجر فوقي ألواح الحكمة.

كان ذلك قبل أن يوجد عالمك وتوجد أنت يا تنيني الصغير الذي أصبح كبير الحجم.

لقد رأيت الأمس كله والغد كله، وتذكرت أني شهدت شهادة الحق حين كنت على غير هذه الهيأة والشكل.

تذكرت الذين التقيتهم صادقتهم وصحبتهم طويلا.

وقد التقيتك هنالك فوق، لكنك لن تذكر الان، ولن تتذكر الا حين تؤوب إلى هناك، إلى حيث تنتمي.

لدهر من الزمان كنت أراها، تغيب فترة ثم تظهر، وكنت قد بدأت أعرف الكثير عن كل شيء، لكني بقيت جاهلا بنفسي.

ذات هبوب ريح قوية نزلت سحابة من ضوء بسرعة وحملتني عاليا، لتلقي بي تحت شجرة لا يُرى منتهى جذعها وأغصانها، كأنها تتشابك داخل عوالم من النور.

وفي جبل الحصا فيه أعظم من كون التنانين الشاسع كله، والذي تمثل الشجرة الواحدة منه كونا أكبر من عالم الفانين، هنالك في ذلك الجبل وتحت تلك الشجرة وجدت السلحفاة، لكنها كانت تتحرك بسرعة تفوق خيالي، ثم لفت في الجو وانفجرت لتتحول إلى تنينة زرقاء عليها تاج أحمر، وكانت أجنحتها بيضاء، ولم تكن تنفث نارا بل نورا، ثم تشكلت امرأة بارعة الحسن وأشارت إلي فخرج نور من اصبعها حولني إلى شكل رجل، وقالت لي وهي تضمني: أصعب امتحان على الأم أن ترى ابنها ولا تخبره أنها أمه.

لكن الإرادة العليا أرادتك في الامتحان، وتم تكليفي بتعليمك الصبر والتواضع في شكل سلحفاة.

الشكل لا شيء في عالم التشكل، وعوالم المثال، فهي أطياف نتحكم بها، والقوة مهما كانت كبيرة لا تعني شيئا إن كانت النفس ظلامية.

وحين ازدحمت الأسئلة في عقلي المهشم، واتسعت عيناي بما لم تره عيناي من قبل، لمست رأسي بإصبعها المضيء، وتذكرت كل شيءـ وعرفت من أكون، ولماذا وجدت نفسي فجأة في كون التنانين، وعرفت أني كائن آخر غير الرجل والتنين، روح أقدم وسر أعظم.

كان ذلك مختصر قصتي مع أم التنانين، تايلا العظيمة، التي أقنعتني لدهر أنها مجرد سلحفاة.

 

 

 

 

منشورات ذات صلة

تلك الليلة المشهد الأخير رواية الغريب
ليلة طال انتظارها. حدث عنها المحبوب، ثم وصيه، فريحانتاه، في مشاهد الفرح به، ومشاهد ألمهم ووجعهم. وكانوا حين ابتلوا بمن نافق ومن جاهر بالعداء،...
11 دقائق للقراءة
تفاحة وزيتونة من رواية الغريب
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه. وقبل أن...
8 دقائق للقراءة
قصة الماء
ما يميّز العقل البشري أنه سجين في قوالب المادة وقانونها. وكلما ظهر له ما يتجاوز ذلك خشي وأصابه الهلع، ولم يحتمل، ففر إلى أحكام...
5 دقائق للقراءة
ليلة أخرى من الوجع من رواية الغريب
ليلة أخرى من الوجع. هكذا كان يكتب الغريب بين الفينة والأخرى. والحقيقة أن ليالي الوجع كانت كثيرة، منذ الطفولة البكر. إن وجود ذلك النسيج...
7 دقائق للقراءة
نهاية المهلة من رواية الغريب
هدوء وسكون في ظلمة مطبقة، بيضة من مادة سوداء تشع طاقة ظلام خالص. ثم كان الانبجاس لبذرة تحمل الوجود وقواه فيها، أشد منه كثافة...
6 دقائق للقراءة
مع رجال الوقت من رواية الغريب
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا. ولم يكن ينسى يوما...
11 دقائق للقراءة
النمر وآخر التنانين من رواية الغريب
كان الغريب يحب النمر كثيرا، قبل أن يعرف أن قرينه نمر، وأنه من مقاماته مقام النمر، وقبل أن يتقن فن النمر القتالي الرهيب، وقبل...
7 دقائق للقراءة
غربة من رواية الغريب
الغريب الغريب الغريب. سئمنا هذا الإسم. قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء. لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا...
5 دقائق للقراءة
شارة التنين من رواية الغريب
عندما كان زعماء تلك المنظمة السرية يقرؤون خبر الغريب، كانوا يضحكون من سيرته، ويتهمون الراوي فيما يرويه، بل إن بعضهم قال أن حصولهم على...
6 دقائق للقراءة
الأمة المعدودة من رواية الغريب
جلس تايبنغ وأغمض عينيه وأخذ يردد تراتيل جبل الخلود، ثم فتح عينيه وقد انتقل ببدنه إلى الجبل، ووقف تحت الشجرة، تاركا جسمه في الكهف...
7 دقائق للقراءة