5 دقائق للقراءة
في تلك الليلة الممطرة، دخل وأمسك الباب ليدخلها من تحت ذراعه القوية وهو يبتسم بغبطة، وكزه الشاب الذي يشبهها وهو يضحك، كانوا على غاية السعادة.
تفضل سيدي ماذا تطلب؟
لا أذكر طلباتهم لكنهم أكلوا وضحكوا، مكثوا لوقت متأخر، وكنت ألاحظ المحبة التي تجمعهم، وشعرت بشيء من الغيرة..
كان شعرها كبيادر القمح في الريف، أصفر يتماوج كالسنديان حين تهزه الريح، عيناها في خضرة المروج، وجهها ابيض بحمرة، جسدها فتي وقدها مياس، ترتدي ثوبا شتويا جميلا، من صوف ناعم داكن الزرقة، ينسدل إلى أسفل ركبتيها، يلتف بحزام جلدي أسود رفيع يبرز نحول خصرها. أكمامه طويلة تنتهي عند رسغين دقيقين، يطل منهما كفّان كزهرتين بيضاوين. فوق كتفيها معطف رمادي ثقيل، تتناثر قطرات المطر على حوافه وتلمع في ضوء المصابيح كحبات لؤلؤ.
في عنقها وشاح حريري بلون بنفسجي خافت، يلامس بشرتها فيزيدها دفئًا، وعلى أذنيها أقراط صغيرة فضية تبرق كلما مالت برأسها وهي تضحك. حذاؤها الجلدي الأسود يلمع من أثر البلل، وصوت كعبيه على الأرضية كان كإيقاع خفيف ينسجم مع ضحكاتها.
بدا حضورها في المطعم كأنه شمس دخلت بين الغيوم، تُدفئ المكان رغم البرد والشتاء والمطر المنهمر.
هل انت جائع يا أدريان، قالت بصوتها الناعم مع الكثير من الغنج والدلال.
ضحك شقيقها لوميار، التي كانت تناديه “وجنة القمر”. كان يشبهها كأنهما انعكاس لصورة واحدة في تجليين مختلفين: أنثوي منساب، وذكوري صلد.
كان جسده مفتول العضلات، كتفاه عريضتين، وصدره يملأ قميصه الأنيق، بدا في جلسته ثابتًا كجبل، وفي حركاته مرونة الرياضي المتمرس.
كان شعره أشقر داكنًا، قصيرًا ومرتبًا بعناية، تتخلله خصلات بلون أفتح تلمع تحت الضوء، كأنها خيوط من فضة. عيناه خضراوان كسهلٍ ممتد، فيهما صفاء وصرامة في آن واحد، وحاجباه مرسومان بدقة تزيد وجهه قوة وجاذبية.
بشرته بيضاء مشربة بحمرة خفيفة، وذقنه مرسوم بخط رفيع من اللحية القصيرة، يمنحه ملامح الرجولة الناضجة.
ارتدى معطفًا أسود طويلًا يلتف حول جسده بإحكام، تحته بذلة رمادية غامقة، وربطة عنق زرقاء داكنة تنسجم مع زرقة الليل والمطر. كانت أزرار قميصه الفاتح تلمع بخفة، وفي معصمه ساعة معدنية ثقيلة تعكس ضوء المصابيح.
أما حذاؤه الجلدي البني الداكن فقد بدا شديد اللمعان رغم المطر، يطرق الأرض بثبات الواثق، كأن كل خطوة منه إعلان حضور.
كان في شكله مزيج من الأناقة الأوروبية والقوة العسكرية، لا يخفى فيه انضباط المحارب ولا سحر العاشق.
أما أدريان فلم يكن من هذا العالم، كأنه أحد ملوك المستذئبين، بشكل أذنيه المحدبتين وشعره الداكن الغزير الذي ينساب إلى أعلى كتفيه.
بدا لي كمجالد قرطاجي في نزالات روما: رقبة غليظة، ذقن حاد، أنف أقنى، جبهة عريضة، أذرع قوية مفتولة، وملابس سوداء ضيقة تكشف عن صدر مكتنز وجسد رياضي متناسق.
وكان كتفاه كأكتاف المصارعين، ضخمة صلبة، وكل تفاصيله تبديه مقاتلا متمرسا، ومدربا جدا.
اقتربت منه بحذر، شدني صوته الرخيم الرجولي، اضطربت فأوقعت سكينا وأنا أضع لهم الطعام، فالتقطها بسرعة ومررها بين أصابعه بخفة كأنه ننجا، ثم وضعها على الطاولة بهدوء ونظر إلي بعينيه الساحرتين وقال لي: انتبهي يا آنسة..
احمر وجهي، وانتقلت الحمرة إلى وجه ميار، ولكنها لم تكن حمرة خجل كالتي سرت في جسدي وبدت على خدودي، بل حمرة غيرة، أو ربما حمرة افتخار.
لا يمكنني أن أنسى صوته الدافئ العميق..
ولا ما حدث بعد ذلك، فقد غير حياتي كلها.
صمتت ساندرا قليلا وراقبت الجمع بطرف عينها، كانت الأعين منبهرة من دقة وصفها، لوشن ابتسم بمكره المعتاد، أما جوليان فقط وضع يده على قلبه، في حين وقف صامويل في آخر القاعة وقد جمع ذراعيه على صدره بملامحه الصارمة التي لا تكشف عن شيء في أعماق ذاته، وكان الجمع يتجاوز المائتين، من أولئك الذين اجتمعوا في تلك الجزيرة الغامضة، في ذلك المبنى الذي يقبع في أعماق الأرض، حيث مقر المنظمة، التي تقيم لقاءات دائمة للتدريب الذهني والتخطيط، مع تدريبات فنون الدفاع ونظم الجوسسة، والتكوين التقني، وكان أولئك الأربعة أفضلهم في كل المجالات، مع تفوق كل واحد في ميدان محدد، وكانت ساندرا الأفضل في التصور والرواية وبناء الشخصيات، ولا يمكن لأحد أن يميز إن كانت تحكي عن حقائق أم تختلق القصص.
غايتنا أن تفهم النفس البشرية وحالاتها من خلال تصور قصص أو سرد تجارب حقيقية مع إثرائها بما لا يحصى من الاحتمالات التي تظهر أن الحياة ما هي إلا لوح زودياك، وبحركة صغيرة يمكن تغيير المصير.
قال الدكتور جايكوب بصوته المميز ولكنته الخاصة، وهو ينظر في وجوه المنتدبين الجدد للانضمام إلى المنظمة.
تدريبكم تدريب شامل وشاق ومستمر، ندربكم على فنون القتل، وفنون حماية الحياة، ونعلمكم سبل الخير وطرائق الشر، وندخلكم في مجالات كثيرة نختبر قدراتكم فيها ليتم تقسيمكم الى مجموعات مختصة لاحقا.
نظر إليهم، قريبا لن يبقى من هذا العدد الكبير إلا قلة، والبقية سيعملون في أقسام أخرى تشرف عليها المنظمة.
كان يرى الحماسة في وجوه والخوف في وجوه أخرى.
وكان تركيزه ينصب على أربعة محددين.
خبراته الكثيرة تساعده لفهم الأنفس وبرمجة العقول، فقد كان عالما متعمقا في النفس والمجتمع والجريمة، روائيا وكاتب سيناريو، ومعلم فنون دفاع بارع، طالما شارك في النزالات الدموية في شبابه، وفاز في معظمها.
بجواره كانت تقف الدكتورة سوزان، بثوبها الرسمي الذي تحرص على ارتدائه، أبيض وأسود، كفكرها ونمط تفكيرها، وكانت رغم جمالها الأخاذ صارمة الملامح لا تبتسم أبدا، فقصة حياتها لم تكن سهلة، وتدريبها المخابراتي كان قاسيا في غابة الرجال.
كانت تقف كتمثال رخام، طولها الممشوق يزيدها هيبة، وجسدها المتناسق يشي بسنوات من التدريب والانضباط. شعرها الأسود المربوط دائمًا إلى الخلف يعكس رغبتها في السيطرة على كل تفصيل في حياتها، بينما عيناها الرماديتان كانتا نافذتين كعدستين تخترقان من أمامهما. لم تكن تترك مساحة للزينة أو الألوان الزاهية؛ الأبيض والأسود هما علمها، كأنها ترفض المنطقة الرمادية في أي أمر.
لم يكن حضورها فقط في صرامة ملامحها، بل في الهالة التي تحيط بها. كان الآخرون يشعرون ببرودة في الهواء من حولها، كما لو أنها تحمل معها غرفة استجواب متنقلة. ومع ذلك، كانت هذه البرودة ممزوجة بجاذبية غامضة، نوع من الجمال الذي لا يطلب الالتفات لكنه يفرضه فرضًا.
قصتها لم تُكتب بالورود، بل بالحديد والنار. منذ طفولتها عاشت في عالم خشن، تعلمت فيه أن دمعة واحدة قد تكلف حياتها. وحين دخلت مجال الاستخبارات، لم تكن امرأة وسط رجال، بل مقاتلة وسط ذئاب. خضعت لتمارين قاسية في الغابة، حيث كان عليها أن تخلع جلدها الأنثوي لتصير أداة من أدوات النظام. ومع ذلك، بقي في أعماقها جرح لا يندمل، جرح جعلها لا تبتسم، كأنها تخشى أن تكشف لحظة ضعف.
كان فكرها رياضيًا صارمًا، لا مكان فيه للعاطفة. ترى العالم كما ترى معادلة منطقية، إما صحيح أو خطأ، أبيض أو أسود، حياة أو موت. ومع ذلك، كانت تملك براعة نادرة في قراءة الوجوه، واستخراج الأسرار من الصمت.