معركة الوعي

4 دقائق للقراءة

من بين كل المعارك التي تخوضها في الحياة، فإن معركة الوعي قد تكون الأشرس والأصعب، وعليك أن تؤمن بهذه الحقيقة، ولئن بدت نوعا من الوسواس القهري: هنالك من يستهدف وعيك.
مسألة الوعي مسألة معقّدة، فكلّ واعٍ مُدرك بحواسّه لما حوله مالك (ولو في ظاهر الأمر) لحركاته وسكناته سيجادلك حول وعيه الخاص ويقينه بأنه يعي ما يفعل، حتى الذين يقتلون الناس بغير حق، يضحكون منّا حين نسميهم إرهابيين ونراهم فقدوا وعيهم البشري وحسّهم الإنساني، وهي معضلة من معضلات المنطق العقلي للكائن البشري: سهولة التقمّص وصعوبة التمييز عند سيطرة الأوهام التي تبدو لدى ضحيّتها حقائق مطلقة، في حين يبدو الحق خارجها مجرد وهم أو عدوّ يجب القضاء عليه.
يمكن أن تقيس بهذا مجالات الانحطاط الأخلاقي والقيمي كلها: الخائن يرى أنه صاحب وعي ورسالة، وشراذم الشذوذ والعنصرية، وأعداء القيم والمبادئ، واللصوص سيما ذوي المناصب منهم المتشحين بوشاح السياسة والمتشدّقين بالدفاع عن الوعي العام والمصلحة الوطنية، وسواهم كثير، كل يغني على ليلى وعيه، ولكن الوعي الفعلي لا يشهد لهم بشيء من ذلك.
إذا ما هو الوعي؟
سؤال له ارتباطات فلسفية خطيرة، فالفلسفة في لبّها نحت الوعي وسعي فكري شاق لتحريره نحه آفاقا أرحب، تلك كانت رسالة سقراط وأفلاطون وأرسطو في مجتمع أثينا الغارق في الرذائل لمنحه معنى للفضيلة وقيمة للجمال والفكر.
ولكن مدرسة التحليل النفسي (خاصة أفكار فرويد) علّقت الوعي بمنطقة الإدراك العقلي، أمام اللاوعي واللاشعور والعقل الباطن والغريزة والـ”هو”، في حين كانت القيم أنا أعلى وضميرا مضمرا ضعيفا أمام النوازع والأهواء.
الوعي في نظري حالة فكر، حالة أقصاها ما تكلم عنه الصوفيون في قمة تجاربهم الروحية (الإشراق)، وهي ذات القمة التي عبّر عنها معلّمو فنون التأمل وفنون الدفاع في الهند (نيرفانا) والصين (آراهان) واليابان (ساتوري)، وكلها مصطلحات تدل على مدلول واحد تقريبا، حالة من الصفاء الذهني (Zen)، تلك قمم الوعي التي دونها مكابدة كبيرة.
الوعي حالة فكر، لعلّه تعبير منقوص، فلنقل “حالة فكر راق”، ونجعل للرقي درجات، أو نقول “حالة فكر إيجابي”، فالسلبية ليست من الوعي في شيء، أو “حالة فكر بنّاء”، لأن الهدم انعدام للوعي.
لكن الثابت عندي أن لا وعي دون فكر، ولا معنى للوعي دون رقي وإيجابية وبناء، فالإنسان الواعي هو إنسان راقي، لا يستهويه الحضيض ولا تستزلّه السفاسف.
وهو إنسان إيجابي، لا يجلس في قبو السلبيّة لاعنا الأيام متلذذا بجراح نفسه دون أي فعل ولا حركة.
وهو إنسان بنّاء، يقف في وجه المخرّبين لكل معنى ومبنى: من يخرّبون القيم الإنسانية، أو يخرّبون المدن والقرى. يبني حسب طاقته: من بناء ذاته وفكره وثقافته، إلى بناء أسرته والمساهمة البنّاءة في بناء مجتمعه ووطنه، وهي مساهمة في البناء الحضاري الإنساني.
وعي مثل هذا له ألف ألف عدو: كل مخرّب ومفسد وسلبي ووضيع وحاقد وظلامي وبلا قيمة، وكل جاهل ومتنطّع ومتطرّف ومدّعي وعي مزيّف.
وبعد كل هذا: هل هنالك حقا من يستهدف وعيك؟
شباب كثيرون سقطوا في حبال الدعوشة: كان منهم الفنان والملتزم والساذج والذكي والأمي والدكتور والمهندس والمؤمن والملحد: لكن كان لدى معظمهم نسبة من الوعي.
عندما تمت برمجتهم بعد غسل أدمغتهم، كثيرا ما ترى أما تقول: مستحيل يكون ابني ذلك الإرهابي القاتل، إنه إنسان آخر، لقد أفقدوه وعيه.
وتلك الأم المكلومة لم تكن تكذب: لقد استهدفوا وعيه ونسفوه وزرعوا مكانه وعيا وهميا ضيّقا يطل على العالم من أسفل قيعان الظلام والكراهية، هل يمكن أن نسميه: الوعي الشيطاني.
الشيطان صاحب إدراك، والنفس صاحب وعي مستقل، لها قدرة ذاتية على الوسوسة، بصريح نص القرآن (ونعلم ما توسوس به نفسه)، فهل لعبة تدمير الوعي الإنساني تكمن في إيقاظ الوعي الشيطاني الكامن في كل بشري (ألهمها فجورها وتقواها).
غير هذا من أنماط الخلل والانحراف كثير: لاحظ الذين يخرّبون أوطانهم بأيديهم، الذين يستمتعون بالسرقة والنصب والنهب، الذين يجدون لذّة كبرى في الخيانة، الذين يحملون اللافتات لينادوا بحقهم في تخريب الأخلاق والقيم والاعتداء على الذوق العام وعلى الأسس الإنسانية التي لم تختلف حولها حضارة ولا ثقافة من ثقافات البشر العريقة.
كل هؤلاء خسروا في معركة الوعي، وخلفهم أذرع كبرى لمشروع جهنمي يستهدف الإنسانية كافة: عندما ترى رئيس حكومة أوروبية يتزوج من صديقه ويحضر ذلك رئيس دولة أخرى، أو عندما ترى من يدوس المارة بشاحنة أو سيارة، فاعلم مقدار السقوط في الوعي والقيم الإنسانية.
خلاصة الكلام: يجب أن نحافظ على وعينا ووعي أبنائنا وبناتنا خاصة، حتى لا يمسخهم شيطان من هنا أو من هناك، فالتطرف هو التطرف اكان باسم الدين أو باسم اللادين، أكان رجعيا ظلاميا أو انحرافيا لا دين ولا قيمة فيه.
مؤسسات الدولة غافلة، منظومة التربية والتعليم في سبات الأميرة النائمة التي أحاط بها الأقزام، مؤسساتنا الدينية تجتر في أغلبها خطابات القرون الوسطى، إعلامنا يحتاج في مجمله إلى علاج، ونحن لا نعي رغم كل الكوارث التي ضربت أمتنا وقتّلت مئات الآلاف منا، خطورة معركة الوعي، وحقيقة وجود من يسرق وعي أبنائنا، ذلك الشيطان الأسود المقيت المتسلل عبر شبكة الانترنت، ومواقع العهر والشذوذ والدعوشة، وعبر كتب الكراهية والتكفير، ولِحى الوهابيين وكلماتهم التي تقطر سمّا معسولا.
فبأي ثمن سوف نستفيق؟

(CB(سوسة ‏02‏-07‏-2017‏ 10:03:38)CB)

مقالات ذات صلة

جوقة الشتيمة
مرة اخرى أكتب عنهم،  اللعانون الشتامون السبابون، الناطقون بكل قول دنيء، ولفظ بذيء.الذين يسبونني كلما ظهرت في الإعلام، ويتنادون كما تتنادى الضباع، ويستبسلون في...
2 دقائق للقراءة
موسم الشتائم
أعيش هذه الفترة أياما رائعة في المغرب الحبيب، أرض الأجداد وأمل الأحفاد، مع أحبة رائعين ونخبة مبدعين من تلامذتي المخلصين، الذين تفيض أرواحهم محبة...
2 دقائق للقراءة
صراعنا مع المتطرفين لا مع أهل الديانات
We have no problem with other religions, because we are people of peace.The Madina charter of the Messenger of God gave the Jews their...
4 دقائق للقراءة
المهدي ملحمة الصبر واليقين – كلمة
رسالة إلى اخوتي السُّنة الذين ينتظرون الإمام المهدي ويبحثون عن شخصه وبلده وسنّه: إنه سر وكنهه واسمه في “الزمان” فهو صاحب الزمان، لا يجليه...
2 دقائق للقراءة
فصل المقال في الرد على كل دعيٍّ دجّال
لسنوات طويلة سعينا لنشر الوعي والثقافة والفكر، محليا ودوليا، وضمن أعلى المستويات وعلى أكبر المنابر، وفي الندوات والمؤتمرات والإعلام، مخلصين فيما نقدمه، مع إعداد...
2 دقائق للقراءة
مع التطبيع
أنا مع التطبيع. لأن الحرب لن تجلب لنا شيئا. حاربنا سنة 48 و67 وخسرنا المزيد من الأرض والقتلى والمشردين. وحتى نشوتنا بانتصارنا في حرب...
3 دقائق للقراءة
تأملات
تعلم من أسوأ ممن يستبعد الناس!من يحب أن يُستعبدْ.ومن أسوأ من المُستعمر.من يحب أن يُستعمر.إنه ديوث وطن.لا يقبل أن يتحرر، لا يريد أن يرى...
< 1 دقيقة للقراءة
هل فقدت الذاكرة؟
هل فقدت الذاكرة؟ لماذا لم تعد تكتب، وتحلل، وتهتف في وجوه المنافقين والظالمين والخونة، وتستصرخ الضمائر الحية، وتكوي الضمائر النائمة لعلها تستفيق؟؟ أم تراك...
2 دقائق للقراءة
المولد النبوي الشريف
“بدعة اللا-مولد”
قال لي غاضبا وشرر عينيه يسعى لحرقي لو قدر: هل تحبون النبي اكثر من الصحابة؟ ما هذه البدعة التي خرجتهم بها عن السلف الصالح....
< 1 دقيقة للقراءة
كنتُ مسلما…..
كنت مسلما…. ليس لشيء إلا لأن ابي مسلم…وولدت في مجتمع مسلم… كنت مسلما…. لم افكر كثيرا…بل مشيت حيث القوم مشوا…ووقفت حيث وقفوا..صلوا فصليت…وصاموا فَصُمت…...
2 دقائق للقراءة