2 دقائق للقراءة
بِرَغْمِ كُلِّ حَقُودٍ حَسُودٍ، جَحُودٍ كَنُودٍ.
وَرَغْمَ أَنْفِ مُنْكِرٍ لَا يَعْتَرِفُ، وَكَارِهٍ مُنْجَرِفٍ، مِمَّنْ تَوَارَثُوا حِقْدَ مَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ، كَمَا وَرِثْنَا سِرَّ مَنْ نَحْنُ عَلَى خُطَاهُمْ، وَنَسْلُكُ عَلَى هُدَاهُمْ.
رَغْمَ كُلِّ ذَلِكَ، وَبِهُدُوءِ مَنْ عَرَفَ، وَسَكِينَةِ مَنْ غَرَفَ، فَإِنَّنَا نَقُولُ:
الْحَقُّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، مَهْمَا زُيِّفَ حَوْلَهُ، أَوْ دُسَّ فِيهِ.
وَلِلْحَقِّ رِجَالٌ، عَرَفُوهُ تَحْقِيقًا، وَمَيَّزُوهُ تَدْقِيقًا، وَشَهِدُوهُ كَشْفًا، وَعَايَنُوهُ تَجَلِّيًا، وَنَفَحَهُمُ اللَّهُ بِهِ نَفْحَ عَطَاءٍ، وَكَشْفَ غِطَاءٍ.
فَمِنْهُمْ مَنْ نَطَقَ بِالْحَقِّ مَأْذُونًا، مُحْتَمِلًا أَذَى الْبَوْحِ، دَافِعًا ثَمَنَ الصِّدْقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ صَمَتَ مَأْمُورًا، مُتَجَرِّعًا قَهْرَ السُّكُوتِ، وَمَرَارَ سَمَاعِ الْبَاطِلِ، وَانْكِتَامَ الْحَقَائِقِ.
فَالْحَقَائِقُ حَرَائِقُ، وَكَتْمَانُ الْحَقِّ كَحَبْسِ لَوْعَةِ الِاحْتِرَاقِ، وَالْبَوْحُ بِهِ كَالْمَشْيِ عَلَى الْجَمْرِ فِي مُكَابَدَةِ الْفِرَاقِ.
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ الْحَقَّ بِلَا صَوْتٍ، وَلَا يَجْعَلُهُ وَإِنْ طُمِسَ يَثْوِي فِي جَدَثِ الْمَوْتِ، بَلْ يَبْقَى لَهُ نَبْضٌ، وَلَوْ كَانَ خَافِتًا، مُنْتَظِرًا ظُهُورَ شَمْسِهِ، وَخَلَاصَ غَدِهِ مِنْ شِرَاكِ أَمْسِهِ.
وَلَا أَقُولُ لَكَ أَنَا صَاحِبُهُ، وَلَكِنِّي وَاثِقٌ أَنِّي خَادِمٌ، فَقَدْ مَنَحْتُهُ زَهْرَةَ الشَّبَابِ، وَسِنَةَ الْكَرَى، وَمَشَقَّةَ الطَّرِيقِ، وَوَحْشَةَ الدَّرْبِ، وَطُولَ سِنِينَ الْحَرْبِ.
وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ دُمُوعِي حِينَ عَرَفْتُهُ، وَلَوْعَتِي حِينَ كَشَفْتُهُ، وَلَيْسَ آلَمَ عَلَيَّ مِنْ حُرْقَةٍ فِي قَلْبِ نَبِيٍّ، وَوَجَعٍ فِي صَدْرِ وَصِيٍّ، وَأَسًى فِي عَيْنِ بَتُولٍ، وَدَمٍ فِي ثَغْرِ سِبْطٍ، وَسَيْفٍ فِي وَرِيدِ إِمَامٍ، وَمَا كَانَ عَلَى سَادَةِ الْخَلْقِ أَنْ يُعَانُوهُ مِنْ تَقْتِيلٍ وَتَسْمِيمٍ وَطَعْنٍ وَلَعْنٍ وَتَشْرِيدٍ وَسَبْيٍ وَسِجْنٍ، عَلَى أَيْدِي مَنْ لَا يُسَاوُونَ تُرَابَ أَقْدَامِهِمْ.
وَكَذَا الْتِفَافُ أَفَاعِي الْبَاطِلِ عَلَى رِقَابِ الْحَقَائِقِ، وَالدَّسُّ وَالْوَضْعُ وَالْكَذِبُ وَالتَّحْرِيفُ…
وَرَغْمَ كُلِّ ذَلِكَ، هَا هِيَ دَوْرَةُ الْأَيَّامِ تَمْضِي لِوَعْدٍ لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَفِي هَذَا الِانْتِظَارِ الْقَلِيلِ الْمُتَبَقِّي، دَعُونَا نَكْسِرْ أَنْفَ كُلِّ مُكَابِرٍ، وَنَدْمَغْ بِالْحُجَّةِ بَاطِلَ كُلِّ مُبْطِلٍ، وَنَمْحَقْ بِالْبُرْهَانِ عِنَادَ كُلِّ مُعَانِدٍ، وَنَتَسَلَّى بِالْجُهَّالِ وَالْحَاقِدِينَ إِذْ نَسْتَفِزُّهُمْ فَيَظْهَرُونَ ضَغَائِنَهُمْ، وَيَنْطِقُونَ بِمَا يَطْوُونَ فِي صُدُورِهِمْ، وَتَرَاهُمْ يَرْتَجِفُونَ كَمَدًا، وَيَتَدَاعَوْنَ شَتْمًا، وَيَخْتَنِقُونَ حِقْدًا.
فَيَأْتِي مِنْ بَرْزَخِ الرُّوحِ صَوْتٌ يُرَتِّلُ بِجَلَالٍ:
﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
[آلِ عِمْرَانَ: ١١٩]