موسوعة البرهان، الجزء الأول (35): علم الأسس (14) الرحمة (1) “كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ”

3 دقائق للقراءة

قبل أن نبحث في الرحمة لابد من التساؤل: لو كان الله سبحانه يعامل كل الناس بالعدل المحض فقط في الدنيا، هل كان ينجو منهم إلا معصوم أو متتلمذ صادق على يديه أو مهدي بهداية ربانية موصولة..فإن الناس يخطئون ويظلمون..ولو كان العدل المسلط قاطعا لما مُنحوا فرصة أخرى، فأي عدل في ذلك!!!!
كما أن الله يحب نبيه محمدا أكثر من كل الخلق، وأوجب الصلاة والسلام عليه، ويحب الأنبياء والرسل أكثر من بقية الناس ويفضل بعضهم على بعض: ” تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (253)”
وكذلك الخلق كلهم من كبار الملائكة إلى بسطاء الناس بينهم مراتب غير متساوية (غير عادلة بالنظر المجرد أو السطحي للعدل)، فالملائكة رتب ومقامات غير متساوية: “وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)”
بل فضل بني آدم على كثير من خلقه ومنحهم أمورا تفضيلية: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)”
فهذا التفضيل موجود في كل شيء من الملأ الأعلى إلى الجن والإنس والحيوان والشجر حتى الحجر فحجر كريم وآخر لا قيمة له….
فأي عدل في ذلك..أن يحب عبدا أكثر من سواه..أن يؤتي احدهم النبوة..وآخر يؤتيه الحكمة..وآخر يولد مجنونا بلا عقل؟؟!!
أن يُضل هذا ..ويهدي ذاك، ولو شاء لجعل كل الناس سواسية ومنحهم الإيمان متساويا لكنه شاء أن يتفاوتوا فهدى من أراد وأضل من أراد: ” وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)”
هنا المتفلسفون وأدعياء العقل المحض ومن شاكلهم قالوا كلاما كثيرا..فمنهم من جرح في العدل الإلهي، ومنهم من جزم أن كل الناس سواسية وان لا فضل لأحد على أحد عالم أو جاهل صاحب فضل أو سواه، وأن العقول متساوية والمقام متساو بين النبي والإنسان العادي، وجعلوا العقل مشتركا كميزة بتساو كامل بين بني آدم جميعا، فإن قلنا أن النبي أكرمه الله بالمعجزات قالوا أن كرامة النبي أنه إنسان كغيره من الناس وبشر كسواه في كل شيء، فيرفضون المعجزات كليا لأن فيها خروجا عن العقل وعن المساواة والعدل ..
وإن قيل أن النبي ملهَم من الله وأن مدى إدراكه أشسع من الناس رددوا أن لا ميزة له فكل العقول متساوية، بل الأنبياء عندهم كغيرهم يشكّون في وجود الله ويبحثون بعقولهم، وهنا تأويلهم لقصة نبي الله إبراهيم وبحثه عن ربه عبر رؤية الأفلاك: ” فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)”
فيرون أن في ذلك شك عقل، وأنه دليل على تساوي الجميع، لأن ذلك منطق العقل، ولأن في ذلك جوهر العدل..
التفاوت بين الخلق كما أقر القرآن هل فيه حقا غياب للعدل بالنظر المنضبط بحدود العدل فقط ومعناه المجرد؟؟
والتساوي بين الناس كما يدعي بعضهم هل فيه استدعاء لقيمة العدل كما يتصورونها؟؟
وفي الحالين إشكال حقيقي، فما هو المخرج والحل لكل ذلك..وما هو المعنى؟؟
إن الشك في العدل الإلهي المطلق والكامل أمر من نقصان العقل والفهم والإيمان، وقد سبق البيان في بعض أوجه العدل الإلهي، لكن حصر الفهم والتفسير لما سبق ضمن العدل بمعنى جاف ومفهوم سجين في العدل ذاته هو كلام خارج الإطار، لأن كل ما ذكرنا يندرج ضمن إطار آخر أشمل من العدل، وإن كان محتويا للعدل ضمن ذوق خاص، وهو أساس يليه ضمن نظرنا في أسس الملكوت الإلهي، ألا وهي “الرحمة”…

مقالات ذات صلة

وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة
الوظيفة الصغرى
الحمد لله وصلى الله على الهادي رسول الله.وبعد فهذه الوظيفة الصغرى للطريقة الخضرية، ضمن ما فتح الله به على عبده. والنفع مجرب والفائدة أكيدة،...
2 دقائق للقراءة
يريد أن ينقض
ذلك الجدار الدي طال به العهد، وانتقل أصحابه عن الدنيا، سئم المقام حيث لا أنيس، ولا ضحكة طفل أو سجود شيخ، فأراد أن ينقض،...
2 دقائق للقراءة
عن والدي النبي وكافله
ورقة من الموسوعة التاريخية، وهذا نموذج لما في معظم الكتب السنية تاريخا وسيرة، حين يتم ذكر ام النبي او ابوه يسمون الاسم، وحين يذكرون...
2 دقائق للقراءة