لوط وقومه ودراما السماء

9 دقائق للقراءة

حين غادر نبي الله إبراهيم قومه بعد معجزة النار التي أصبحت بردا وسلاما، غادر معه القليلون الذين آمنوا معه، ومن بينهم ابن أخيه لوط.
“فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)”(العنكبوت).
وفي هجرة لوط إلى ربه، وجد نفسه في سدوم وعمورية، حيث أرسله الله الحكيم العليم إلى بعض من أفسق خلقه لحكمة أرادها.
ذات يوم جاء إلى إبراهيم ضيوف، ثلاثة من الرجال ذوي الوسامة والقوة، وأتى كعادة كرمه بعجل سمين، لكن أحدا منهم لم يمد يده للطعام، فخشي منهم.
طمأنه ضيوفه وقالوا له نحن لا نأكل من هذا الطعام، فنحن رسل من الله نبشرك ونبشر زوجك بولد وحفيد، فتعجبت سارة وقالت كيف ألد وأنا عجوز وزوجي شيخ، فابتسموا وقالوا لا عجب في امر الله.
ثم حدثوا إبراهيم عن مهمتهم: سوف نهلك قوم لوط. وجادل إبراهيم برحمة في قلبه قائلا: إن فيها لوطا. لأن إبراهيم يعلم القانون الرباني الذي ينجي الله به أقواما لأجل الصالحين بينهم، لكن الله إذا أراد إهلاك قوم أهلكم ونجى أهل مودته وقربه ومحبته أنبياء ومن تبعهم وصالحين ومن كان تحت أنظارهم.
مشهدية عظيمة حملها إلينا القرآن العظيم لننظر ونعتبر.
” ۞ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) (الحجر).
“وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)” (هود).
” وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) (العنكبوت)
لقد أخبر الملائكة الكبار والقادة العظماء للجند الرباني (جبريل وإسرافيل وميكائيل) خليل الله إبراهيم بالقرار الإلهي دون تفصيل كبير: لقد صدر الأمر الرباني بختم القهر والجبروت، وتم تحديد المكان والتوقيت، ومن سينجو ومن سيهلك (كل أهل سدوم وعمورية وحتى امرأة لوط)، وهو أمر لا راد له بشفاعة شافع، ولو كان خليل الله نفسه، ولكنهم أتوا إليه بالبشارة: إسحاق ومن بعده يعقوب، وردوا إليه شبابه وشباب زوجته، رحمة من ربه، ووعدا بالحياة، ومكثوا في هدوء ومضوا في هدوء، وأهل سدوم وعمورية حينها في ناديهم وفي فسادهم وفسقهم يظنون ان لا غالب لهم ولا رقيب عليهم.
يمضي الملائكة المرسلون في صمت وسرية ويصلون القرية، ولهم قدرة الانتقال السريع عبر المكان، ويمضون إلى منزل لوط الذي لم يعرفهم، لكن تلك الوسامة وذلك الألق سيكون سبب بلاء شديد كما رأى لوط الذي صار منهم في كرب شديد، وهو لا يدري من ضيوفه.
“وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)”
قوم لوط سبقوا من كان قبلهم بشناعة كبيرة عاينها لوط وكلمهم بشأنها فلم يسمعوا وعاتبهم فلم يرتدعوا، بل طالبوا بطرده وأهله لأنهم “يتطهرون”، لتكون الطهارة والاخلاق جريمة وتهمة في نظرهم، ثم إنهم قالوا له فلتأتنا بعذاب الله، ولعلهم شرعنوا فسادهم، فتزوج من تزوج منهم ذكرا بذكر، وأنثى بأنثى، وعمل من عمل منهم على جعل ذلك ميلا طبيعيا وليس مرضيا، بل قال بعض منظريهم أن الأصل هو ما هم عليه، واستنكفوا من كلمة “شذوذ” ورأوا فيها اعتداء عليهم وعلى حقوقهم وحرياتهم الشخصية، وقالوا: هو جنس مثلي، وربما كانت لهم في نواديهم حفلات وسهرات، ولا يخلو الأمر من خمر ومخدر، ومن مستثمرين يديرون ذلك، وسياسيين يستخدمونه، وسرى الوباء فيهم جميعا، لكن الأكيد أن أولئك التسعة المفسدين في قوم ثمود كان لهم نظير في سدوم وعمورية، وكان ضمنهم أشقاها الذي “بادر” بتلك الشناعة وفاخر بها، وعكفت لجنة التسعة على تقنين ذلك وتشريعه ونشره، ولعله كانت لهم جمعية ترعاهم، وكانوا قبل أن يصل إليهم لوط بزمن قلة قليلة وشراذم حقيرة، فسعوا في نشر سمهم ووبائهم ومرضهم الذي فيه فناء النسل وفساد الاجساد وانتشار المرض جسدا وروحا، ولكن مجتمع “سدوم” كان ضعيفا، والحاكم كان وضيعا، وأهل السياسة كانوا فسدة، وأصحاب المال لا يجدون حرجا في شيء ما دام فيه ربحهم وكسبهم، وقد وضعوا حسابا لكل شيء، ولم يقرؤوا حسابا لخالق كل شيء.
ولا اعتبروا بكلام رجل ضعيف مثل لوط، ولا فهموا لماذا جاء ضيوفه إليه، ولم يعلموا ان القرار السماوي تم توقيعه من صاحب الملكوت، وأن الأمر صدر، وأن الجيش السماوي أحاط بهم، وأن كل شيء تم تجهيزه للمهمة: الأرض التي تحتهم لم تكن آمنة كما كانوا يظنون، والسماء الصامتة فوقهم لم تكن عاجزة كما كانوا يتصورون.
“وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81)وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) ” (الأعراف)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)(العنكبوت)
في مصطلحات القرآن وكلماته معان عظيمة عجيبة، وقد شدتني آية في تأمل من تأملاتي قال فيها الحق جل وعلا: ” اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)” (البقرة).
إنه أمر عجيب ومخيف: أن يستهزئ الله بقوم ما ويمدهم في طغيانهم ضمن مكره الخفي وكيده المتين.
تأمل إذا قوم سدوم وعمورية: يصلهم خبر ضيف لوط، فيهرعون وهم يطمعون، ولكن في ماذا وفي من؟
في منتهى إثارتهم البهيمية، وسيطرة الرغبة السفلية عليهم، تحملهم شهواتهم إلى ما هو خلف المحال: لم يعلموا أن من حسبوهم غلمانا من أجمل ما ترى العين لم يكونوا في الحقيقة سوى أقوى أسلحة وأقوى مقاتلين وأقوى مدمرين خلقهم الله، سادة الحرب والسماء.
انظر إليهم يتسورون البيت، تأمل ملامحهم والشبق المسيطر عليهم، انظر إلى أعينهم، إلى شياطينهم من حولهم، مظاهرة من مظاهرات الشواذ، مظهر للحرية كما يراها إبليس في إهانته لنسل آدم.
لوط الذي لم يكن يعلم بدوره، سألهم أن لا يخزوه في ضيفه وقال لهم: خذوا بناتي. وقالوا لا نريد بناتك بل نريدهم هم.
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) (هود).
“نريد”…يا للإرادة الحرة والعزم القوي.
تحت بند الإرادة تمردوا على الأخلاق وضربوا بها عرض الحائط.
وتحت شعار الإرادة الحرة روجوا للفسوق والشذوذ.
وتحت راية الإرادة ألحدوا بربهم، وحاربوا الدين، ودمروا الأسرة وأفسدوا الناشئة وجاهروا بالمعاصي.
وتحت وهم الإرادة كانوا يريدون فسوقا بأقوى الملائكة.
هل من سخرية أكبر من هذا؟
أليس هذا استهزاء عجيبا من الله بهم.
هل تتخيل نظرة الملائكة وهم متشكلون في شكل شباب على غاية الوسامة، وهم من هم مقاما وقوة وقدرة على بث الفزع والرعب في أكثر القلوب قسوة وعنادا.
هل يمكن أن ترسم صورة تلك الشرذمة تحيط ببيت لوط وتهم بكسر الباب ويعلو صياحهم وهم على مسافة شبر من جبريل وإسرافيل وميكائيل شخصيا !!
هل يمكن لعقل أن يتصور من هو جبريل ومن إسرافيل وميكال؟
ما قوتهم وما مهابتهم وما الجيش الذي يأتمر بأمرهم ويحاصر تلك القرية من فوقها وتحتها من كل جهة من حولها ويعرف أولئك الفسقة واحدا واحدا وأعد لكل واحد نصيبه من العذاب الأليم.

في تلك اللحظات التي اجتمع فيها فساق تلك القرى حول منزل لوط، في ظلمة الليل والمشاعل في أيديهم، لم تفد معهم محاولاته لإقناعهم حتى وقد اقترح عليهم “بناته”، ضمن ظاهر اللفظ الذي لا يحتمل التأويل إلا استنكافا مما لم يستنكف الله من ذكره. في تلك اللحظات شعر لوط بضعف قوته أمام تجبر واستكبار الفسقة الفجرة، فصاح في وجع: “قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)”
هنا تتغير الحبكة الدرامية تغيرا جذريا: من يظنون انفسهم محاصِرين أقوياء كانوا في الحقيقة محاصَرين ضعفاء.
من ظنوا أنهم محاصَرون مستضعفون كانوا في الحقيقة يأوون إلى ركن شديد، وشديد جدا، بل الأشد والأقوى: ركن الله وركن أقوى جنوده.
والضيوف الذين يبدو أنهم شباب يافعون على وسامة ونعومة في ظاهر الحال كانوا في الحقيقة ملائكة قاهرين بقوة القاهر فوق عباده، فتدخلوا في لحظة الحرج، لحظة كسر الباب على لوط وبنتيه، في قمة هيجان قومه وغليان طاقة الشر فيهم: ” قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ” .
تخيل المفاجأة التي عاشها لوط، وانظر إلى سر “لن” المهيب الرهيب: لن يصلوا إليك…ولم يصلوا إليه أبدا.
ثم كانت لحظات دقيقة سريعة لخطة الانقاذ الربانية بشرطها وسرها واستثنائها: “فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)” .
أليس الصبح بقريب؟
لعل فيها بشارة لكل مبتلى مستضعف محاصر.
ينجو لوط بشرط واستثناء.
الاستثناء أن امرأته هالكة لخيانتها واشتراكها مع القوم في إجرامهم بشكل من الأشكال.
والشرط عدم الالتفات، لأن نظر الصالح فيه رحمة، ومقام أولئك القوم وعذابهم القادم القريب لا رحمة فيه، ولا نظرة إلا نظرة الجبار المنتقم، ونظرات الملائكة الغاضبين والجند الذين ينتظرون منذ زمن تلك اللحظة.
كم مكث قوم لوط على فجورهم ووهم إرادتهم الحرة وقوتهم؟
كم تشدق منظّروا الشذوذ بينهم وكم خطب سياسيوهم وكم باع النخاسون وكم من لذائذ فاسقة تمتعوا بها وهم لا يرون في السماء حسيبا ولا حولهم في الأرض عتيدا رقيبا.
لا أظن أن قدرات السينما الهائلة اليوم قادرة على تجسيد مشهد خروج الملك جبريل بشكله الجبروتي المرعب على أولئك الفجرة وطمس أعين من طمس منهم.
ولا يمكن تصور الرعب الذي أصاب أولئك الفسقة والشواذ الملاحدة المستهزئين بعذاب الله وهو بهم محيط.
ولا يمكن أن نستحضر بدقة مشهد هجوم الجيش الرباني والقصف الذي أصاب تلك القرية ومطر الحجارة السجيلية المنضودة المسومة التي تعرف كلٌّ منها صاحبها الذي ستصيبه وموقع وتوقيت الإصابة.
ولا لك أن تتخيل كيف تم رفع القرية عاليا وقلبها رأسا على عقب.
ولا مشهد إسرافيل وميكال وهما يغادران تشكلهما الشبيه بالانسان إلى ما لا يمكن لقلب بشري تحمله والرعب الذي انتشر وفرار الذين كانوا منذ أيام يعاندون لوطا ويقولون له ائتنا بعذاب الله، ومن لحظات يحاصرون بيته ويريدون مساسا بما لا يمكنهم مساسه مطلقا.
هل احترقت شياطينهم معهم ونجا إبليس لنُظرة الله له؟
ومن الذي مكر بهم وأخبرهم أن في منزل لوط غلمانا فاتنين؟
وكيف تم القضاء عليهم جميعا وعلى مبانيهم ومعانيهم؟
أي عذاب شعروا به وأي فزع ورعب؟
هل أغنت عنهم نظرياتهم وجمعياتهم وناديهم وقوتهم الواهية؟
تأمل إذا: “فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83) (هود)
لكن لماذا ذكر الله في ختام الآيات: ” وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ”
إن في ذلك إشارة إلى تكرار صنيع قوم لوط في قادم الأزمنة، وإلى تكرار العذاب أيضا، وأن نفس الجيش سيضرب مجددا.
فلعل شيطانا من شياطين قوم لوط، نجا من تلك الليلة، واختفى ينشر سمه بحذر في أفراد هنا وهناك: في بلاد الاغريق وفي روما، وحتى في أرض العرب وفي قصور الجواري والغلمان.
لكنه انتظر فرصته ليجدد نوادي سدوم وعمورية وليرجع إلى الأرض نجاسة قوم لوط لكن بمؤثرات أكبر ومجال أوسع ووقاحة أشد:
جمعيات دولية ودول راعية.
شرعنة للشذوذ وزواج علني للشواذ حتى رئيس حكومة دولة أوروبية تزوج من صديقه.
اختراق لكل دول العالم ولكل شباب البشر من جميع الديانات، وبرمجيات قوية لنشر الشذوذ، أفلام ومواقع، كتب وتنظيرات، راية مميزة بألوانها، مجتمع “ميم”، دعاة للإلحاد والشذوذ على المنابر، وجمعية اتخذت علمين من أعلام التصوف الاسلامي شعارا وأطلقت على نفسها اسم الشيخ شمس التبريزي، نكاية في أهل الاسلام، والأدهى أنها في القبلة الرابعة بالاعتبار كما قال الامام مالك للامام علي بن زياد في حديثه عن بلاد إفريقية.
لوط اليوم محاصر في منزله، في بيته بالقدس أو في غزة، في مسكنه بالشام.
محاصر في كل منزل فيه قوم يتطهرون، فيه شاب مستقيم وبنت عفيفة وأب يتقي الله وأم تخاف ربها.
في كل مكان يستضعف فيه أهل الحق والطيبة، في كل مكان يُحاصر فيه الحق، بعجرفة قوم لوط، بصلافة كوبوي يحكم الدولة الأقوى، بضغط بنك فرعون الدولي، بمكر الصهاينة وإجرامهم، بقسوة هامان وهو يدرس جنوده الفقه الوهابي البغيض، بحقارة قارون وهو يوزع المال على اللصوص ويسرق ما بقي من دم لدى الفقراء.
وفي تونس أراهم يحاصرون أهل الله: يحاصرون أبا سعيد الباجي، ومحرز بن خلف، والسيدة المنوبية، ويحاصرون كل ولي وولية وكل صالح وصالحة وكل نفس فيه دين وأخلاق.
لكن خلف ذلك الحصار، في ليل المحنة والفتنة، وفي ذلك الجمع الكبير، والحصار والنفير، وفي دموع المحاصَرين وهيجان المحاصِرين، هنالك ضيوف في قلوب أهل الإيمان والطيبة، ضيوف صامتون هادئون، ولكن بعد حين، حين ينادي لوط ويصرخ لو أن لي بكم قوة، سيمتظهرون ويقولون: نحن هنا اخيرا، بينهم وهم لا يشعرون، لقد تخطوا الخط الأحمر، وقد جمعوا كل شرور الأمم السابقة، وسوف نذيقهم كل عذابات الأمم السابقة، في صبح قريب، قريب جدا.
” وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)” .

سوسة
16/08/2018 21:33