التطرف… الخطر الداهم على الإنسانية

5 دقائق للقراءة

ليس التطرف مجرد فكرة عرقية أو دينية متعصبة، أو مجردنزعة للاعتقاد المرضي الذي يريد أن يكون على حساب بقية المعتقدات بل مع الرغبة فينفيها ونسفها من مجرد النقاش إلى الإعدام الوجودي والقتل والإرهاب، بل هو يتجاوز ذلك إلى خطر قديم كم عانت البشرية من ويلاته، وخطره اليوم أكبر بحكم اتساعالإمكانات وتحول العالم إلى قرية صغيرة عبر ما وفرته التطورات التواصليةوالاتصالية والقدرة على السفر والتحرك افتراضيا وماديا.
إن الوعي البشري يمر في أحيان كثيرة باحتقان مفهومي واختناق إدراكي يصيب بعضالأفراد والجماعات ليتحول إلى تعصّب وتطرّف ومن ثمة إلى قتل فردي أو جماعي، وفيتاريخ العالم الكثير من المجازر التي سببها التطرف العرقي أو الديني أو التعطشالدموي للحكم بمبررات طائفية أو دينية، مثل ما قام به الأمويون إبان حكمهم من مذابح بلغت حتى حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم (قتل الإمام الحسين وأهله بكربلاء)، ثم ما قام به الخليفة العباسي السفاح حين أسقط دمشق وانتزعها من الأمويين وقتل أكثر من سبعين ألفا من أهلها، وما قام به عبد الرحمان الداخل الأموي حين حكم الأندلس وذبح في يوم واحد أكثر من سبعين ألفا من الجند التابعين للعباسيين،ومذابح المورسكيين المسلمين على أيدي محاكم التفتيش إبان سقوط الأندلس، أو ما فعله جنود هولاكو وجنكيز خان في خراسان وبغداد وغيرها، وما قامت به القوات الصليبية حين احتلت القدس وقتلت الكثير من أهلها، وكذلك مجزرة القديس برطلماي St.Bartholomew’s Day Massacre في 24 منأوت سنة 1572، والتي راح ضحيتها قرابة الستين ألف من المسيحيين البروتستان على أيدي المتعصبين للكنيسة الكاثوليكية، بأوامر مباشرة من تشارلز التاسع وأمه ومباركة من الكنيسة نفسها. ثم مذابح سيفو التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الكلدان والسريان والآشوريين والأرمن وجميعهم من المسيحيين على أيدي قوات نظامية تابعة للدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى بداية من سنة 1915بأوامر من حكمة باشا وزير الحرب. والأرقام كبيرة جدا والمشاهد موجعة كما أوردتها بعض الشهادات مثل شهادة رافايل دي نوغاليس مينديز [1] .وبعدها في تسعينات نفس القرن تكون مذابح سراييفو على أيدي المتعصبين الصرب ضد المسلمين، ثممجازر الفلسطينيين على أيدي عصابات الهاغانا الصهيونية أثناء احتلال فلسطين مثل مذبحة دير ياسين بتاريخ 9 أفريل 1948، ومجزرة صبرة وشاتيلا [2] سبتمبر 1982 واستمرت لمدة ثلاثة أيام على يد المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلةبحزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي والمشاهد كثيرة مؤلمة مفزعة، تبين إلى أي حد يمكن للتعصب أن يفعل وللتطرف أن يسبب من دم وخراب، أليست الحرب العالمية الثانية نتيجة لبذرة تعصب جنوني لدى هتلر حول الجنس الراقي، ووجدتمن يساعدها من نازيين وفاشيين ومجانين حرب، وذات الأمر يتكرر اليوم بأشكال كثيرة، مرة في قتل أمريكي متعصب لطالب سوري وزوجته الطالبةوأختها الفلسطينيتين، وآخرها إطلاق متعصب آخر النار في كنيسة للسود وقتل تسعةمنهم، او جرائم بعض اليمينيين المتطرفين والنازيين الجدد في أوروبا وراح ضحيتهاعدد من المسلمين خاصة، وصولا لما تقوم به داعش من قتل وذبح وتنكيل وتم فيها قتل الصحفيالياباني كينجي جوتو (بوذي او على ديانة الشينتو المنتشرة في اليابان) وأكثر منعشرين مصري قبطي في شواطئ ليبيا والطيار الأردني معاذ الكساسبة المسلم السني حرقافي سوريا وعدد كبير من المجازر بحقالأيزيديين المسيحيين في العراق، مما يبين أن التطرف والتعصب حين يتحول إلى تطبيقلا يكون حكرا على دين معين بل يستهدف الجميع ويمكن أن يصدر من الجميع أيضا متى توفرت الكيمياء المناسبة في النفس والمجتمع وفي لعبة يديرها من يستثمر في ذلك، وهو ليس محصورا في مكان أيضا، بل أراه خطرا عالميا تمهظر في أرجاء العالم كله من العمليات الإرهابية بمدريد ودلهي إلى حادثة شارلي إيبدو ثم حادثة باردو بتونس وفولغوغراد(روسيا) وكومين (الصين) وما جرى ويجري في بروما من مجازر ضد المسلمين على أيدي المتعصبين من البوذيين.
هذا التطرف الدموي الذي يمزق العالم اليوم كما مزقه منقبل، يجد مناخا مناسبا في دعوات الانغلاق والأفكار الظلامية التي تبدأ من مسجد أوكنيسة أو دار عبادة أو مكان سري، ويمكن أن يضر حتى بمعتنقيه، ولا تزال الذاكرةا لأمريكية تحتفظ بصور إبادة الهنود الحمر، والمذبحة التي قام بها بعض متطرفي المورمون في القرن التاسع عشر وقتلوا أكثر من ألف وثلاثمائة كاثوليكي بين طفل وامرأة ورجل، ثم جنون جيم جونس ومعبده وإجباره لأتباعه على الانتحار بالسم أو قتلهم تلبية لتعصبه المرضي الذي تم التغاضي عنه مراعاة لفهم حقوقي عقيم، ثم كانت الكارثة بتاريخ 18 نوفمبر 1978، في فاجعة صدمت أمريكا والعالم ورسمت ملامح الحيرة والذهول، حيث قام تسعمائة شخص بالانتحار الجماعي في مزرعة”جونز تاون “Jonestown” التي كانت مركزا لطائفة دينية غريبة الأطوارعرفت باسم كنيسة الشّعب “Peoples Temple” و كانتالمرّة الوحيدة في التاريخ التي يُغتال فيها سيناتور أمريكي أثناء تأديته مهامه الرسمية. وهذه قد تكون أكبر عملية انتحار جماعية في التاريخ، بسبب التغاضي عن خطر التطرفوالتعصب والعقائد المريضة الفاسدة بحجة الحق الإنساني وهي حجة باطلة لأن الحقمحكوم بالواجب وما يمثل خطرا يجب ردعه فورا قبل تحوله إلى كارثة وهذا ما عشناه بعدما سمي بالربيع العربي ففي تونس مثلا تم التغاضي عن التكفيريين وتوفير غطاء سياسيوحقوقي وجمعياتي لهم بل وتشجيعهم ومنحهم العفو التشريعي ليصبح خطرهم عالميا فهميشكلون النسبة الأكبر من عدد الدواعش اليوم وأعلى نسبة في القيادة والانتحاريينوخطرهم القادم على بلادهم الأم وعلى العالم العربي والمجتمع الدولي سيكون أكبر إناستمر العالم في الصمت أمام لعبة دمار الدول العربية وتخريبها ونهب ثرواتها لينتقل بعد ذلك إلى خراب العالم كله والسعي للقتل في كل مكان وليس هزم المخابرات الفرنسية في شارلي إيبدو وموقعها الحساس في قلب باريس أو اختراق شبكات قناة TV5 وقرصنة مواقعها ومنع بثها سوى مشهد يبين مدىالدعم التي تحظى به مجموعات مثل داعش ومدى خطورتها وخطورة ونفاذ من يقوم بمساندتها.
التطرف خطر كبير يحتاج مشروعا بشريا شاملا لصده والتغلب عليه أو الحد منه، صحيح أنه مرض بشري موغل في القدم والدموية، وأنه ليس حكرا علىملة معينة أو أهل ديانة بذاتها بل هو مرض اجتماعي نفسي ولوثات في المعتقد وكلديانة مهما كانت ليست سوى وسيلة منحتها السماء أو ابتدعها الانسان – في المجمل –لإيجاد صلات روحية ومنح العالم لونا وكنها آخر.
إن مواجهة التطرف عبر العلم والثقافة والعقائد النيرةوقيم التسامح والتعايش، وقيام مشروع دولي من أجل ذلك وعناية كل دولة من جانبها، كل ذلك أمر واجب وأكيد، فلا بديل عن سلاح الثقافة النيرة في مواجهة ثقافات الموت والظلام والتعصب الأعمى.

 


[1]  رافايل دي نوغاليس مينديز وهو ضابطفنزويلي كان يحارب بإمرة العثمانيين كيف أن المجازر كان قد خطط لها مسبقا من قبل السلطات العثمانية فلدى وصوله إلى سعرت يروي دي نوغاليس ما شاهده:”كان بالإمكان مشاهدةآثار المجازر في التلال المطلة على الطريق الرئيسي، والتي غطت سفوحها الكئيبة آلافالجثث شبه العارية والمدمية، ملقية في كوم أو متعانقة خلال شهقات الموت الأخيرة. تمكنتمع رجالي من دخول سعرت بصعوبة لتراكم الجثث التي اعترضت سبيلنا في الطريق. وهناك شاهدناكيف قام بعض سكانها بمرافقة الشرطة المحلية بسلب بيوت المسيحيين. لدى وصولنا إلى السرايالتقينا بالحكام المحليين الذين كانوا مجتمعين بجودت باشا ومن حديثهم استنتجت أن المجزرةتم التخطيط لها البارحة من قبل جودت باشا شخصيا.

 

[2] مذبحة صبرا وشاتيلا هي مذبحة نفذت في مخيمي صبرا وشاتيلا لللاجئين الفلسطينيين في 16 أيلول 1982 واستمرت لمدة ثلاثة أيام على يد المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلة بحزبالكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي. عدد القتلى في المذبحة لايعرف بوضوح وتتراوح التقديرات بين 750 و 3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخالمدنيين العزل من السلاح، أغلبيتهم من الفلسطينيين ولكن من بينهم لبنانيين أيضا. فيذلك الوقت كان المخيم مطوق بالكامل من قبل جيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي الذيكان تحت قيادة ارئيل شارون ورفائيل ايتان أما قيادة القوات المحتلة فكانت تحت إمرةالمدعو إيلي حبيقة المسؤول الكتائبي المتنفذ. وقامت القوات الانعزالية بالدخول إلىالمخيم وبدأت بدم بارد تنفيذ المجزرة التي هزت العالم ودونما رحمة وبعيدا عن الإعلاموكانت قد استخدمت الأسلحة البيضاء وغيرها في عمليات التصفية لسكان المخيم العزل وكانتمهمة الجيش الإسرائيلي محاصرة المخيم وإنارته ليلا بالقنابل المضيئة.

منشورات ذات صلة

في فن الاستباق الدكتور مازن الشريف خبير في الاستراتيجيات الامنية والعسكرية ومكافحة الارهاب خبير في علم الاستشراف والمستقبليات. رئيس المنظمة الدولية للامن الشامل
يمثل الفن عصارة الرقي البشري والاتقان الانساني في كل مجالات الحياة، فكلما بلغ العمل مستوى الابداع والعبقرية والاتقان تحول من فعل عادي إلى فن:...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (31) : الفصل الخامس: الملحق: شرح مصفوفة النظرية العامة
بعد شروحات كثيرة من منظورات مختلفة لنظريتي الثلاثية (التنظير، التكفير، التفجير) والتي تحققت مراحلها وثبتت دقتها، فإني سأشرح نظريتي العامة ضمن مصفوفة تحتوي النظرية...
5 دقائق للقراءة
الأمن الثقافي المعنى وحتمية الحاجة
مقدّمة: مثَّل الأمن جوهرا إنسانيا حضاريا منذ بدايات اجتماع البشر في قبائل ثم مدن وصولا إلى الدول، بل إن له قيمة حتى في التكوينات...
11 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (29) : الفصل الخامس: الملحق: وباء الوهابية
*نُشرت في عدد من الصحف كالتي في الصورة. قبل سنة 2007، لم أكن أعرف شيئا عن الوهابية، ككل الشباب من جيلي، لم نكن نسمع...
6 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (30) : الفصل الخامس: الملحق: (التنظير، التكفير، التفجير) نظر في مراحل الإرهاب وتمشّيه
كنت في بحوثي ضمن علم المنطق والفلسفة وعلم الأخلاق أجد مشاكل اصطلاحية دعتني لدراسة معمقة في علم المصطلح والمفهوم وهو علم خطير لا تعرف...
12 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (28) : الفصل الخامس: الملحق
يحتوي هذا الملحق على دراسات اخترتها بعناية، أولها حول وباء الوهابية ونظريتي “التنظير، التكفير، التفجير”، ثم تفسير لتلك النظرية عبر آليات علم الاجتماع، وهذه...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (27) : خاتمة
ليس الإرهاب مقاتلا يحمل بندقية أو انتحاريا يفجّر نفسه فقط، فتلك خلاصة التمشي الذي بدأه عقل مدبّر ووقع فيه عقل مدمَّر تمت السيطرة عليه...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (26) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاستراتيجي
هو بعد معقد جدا، وهو أعقد الأبعاد وأكثرها تخللا للتمشيات، لأن الإرهاب استراتيجيا، وله استراتيجيات داخلية، تصب كلها في مصالح معينة تستخدم بيادقها لتخرب...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (25) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الدولي
ليس الإرهاب حركة معزولة، بل هو نظام كامل، وشبكة معقدة، وعبر التاريخ كله لم يكن منفصلا أبدا عن مطامح ملك في مملكة يريد أن...
< 1 دقيقة للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (24) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاقتصادي
هو بين متناقضين: حالات من الفقر المدقع التي تضغط على النفس وتمثل مجالا تنشط فيه التمشيات التي تستهدف العقل الإرهابي. وحالات من الرفاه المتخم...
2 دقائق للقراءة