كتاب رحلة في عقل إرهابي (30) : الفصل الخامس: الملحق: (التنظير، التكفير، التفجير) نظر في مراحل الإرهاب وتمشّيه

12 دقائق للقراءة

كنت في بحوثي ضمن علم المنطق والفلسفة وعلم الأخلاق أجد مشاكل اصطلاحية دعتني لدراسة معمقة في علم المصطلح والمفهوم وهو علم خطير لا تعرف دولنا بعد قيمته.
هل أن انعدام الأخلاق نوع من الأخلاق؟
هل اللامنطق نمط من منطق مخصوص؟
وهل يكون اللامعنى نوعا من المعنى ضمن تصور فلسفي يبحث في وجود معنى للاّمعنى نفسه؟ كما بينت في لوح من ألواح كتابي “تأملات فلسفية”.
وكذلك مسالة الفكر: هل يمكن أن يكون اللافكر نمطا من الفكر؟ أو يجوز لنا كباحثين أن ننظر في أشد أنواع الفكر تطرفا وانعداما وبدائية لندرسها كنسيج فكري مخصوص ولو من باب الأنتربولوجيا التي قام علماءها بدراسة الخرافة والأسطورة ورؤى البدائيين للإنسان والعالم والكون ككل، وللحياة والموت والخلق والخالق.
حتى مسالة الثقافة، والكلام عنها من باب الأدب والمنطق والفلسفة، هو أمر فيه تساؤلات كثيرة، حين نتكلم عن ثقافة الموت، وثقافة الانسلاخ، وثقافة الانغلاق، فهل هي ثقافة فعليا أم بعض ما تنمح اللغة من مجاز؟
ووفق هذا التمشي، وهل يمكن أن نسمي الإرهاب نمطا فكريا، نوعا لا منطقيا من المنطق، ضربا منعدما من الأخلاق؟
ربما يكون نسيجا فكريا، أو شبكة من أفكار سوداء، وربما لا يصح منحه وسام الفكر أصلا بمعناه الراقي. أو قد يكون خلاصة فكر مهيمن عليه يحرّكه بذكاء ماكر، فتحليل الظاهرة من الداخل يثبت أن هنالك ملامح لنمط تفكير خبيث رَكّب وكوّن ما نراه جنونا وتعصبا وانعدام فكر. وهنا نظرية كاملة في دراسة العدو من الداخل، وهو باب درسته في كتابي: “رحلة في عقل إرهابي”، وفي دراسات أخرى.
ولعلّ نظريتي (التنظير، التكفير، التفجير) من أدق الدراسات والنظريات التي محّصت ذلك الفكر المحرّك، والكفر المتحرّك. ويصح أن أقول أن خلف كل مكفّر أعمى، يختبئ مفكّر مستبصر، يرى جيدا كل التفاصيل ويحرّك خيوط الدمى ويعرف أين يضع كل بيدق ومتى يستخدمه. ويكون وعيه متحفزا، في حين يكون وعي البيادق وعيا غائبا ممغنطا يمضي عبر رقعة التنظير إلى مناطق التكفير التي تلغي التفكير، ثم إلى مواضع التفجير التي يتم اختيار مواقيت تفعيلها وأماكنها بعناية وقصد. مما يدفعنا لدراسة توثيقية حول طوبوغرافيا التنظير والتكفير والتفجير حتى نرى الحركة الانتقالية جغرافيا، ونتبين مقاصدها، ونستشرف مسارها وخططها القادمة. وإن إيلاء الجغرافيا قيمتها يمنح علما استراتيجيا أكمل وأوضح، إذ الجغرافيا أم الاستراتيجيا، وهي باب لعلم الجيوستراتيجيا القيّم والمهم. كما أن الدراسة المقارنة والتاريخية التي تبين تجارب دول استهدفها الإرهاب أو استوطنها توفّر قاعدة بيانات هامة ومعطيات قيّمة، فالنموذج واحد والعقيدة نفسها والتوجه ذاته رغم وجود بعض الاختلافات الجزئية.
التنظير، التكفير، التفجير، هو التمشي العام للإرهاب، رغم أني كنت بنيته من دراسة الوهابية كوباء عقلي وقلبي معد ومدمّر، دموي منذ نشأته، مخاتل منذ أن تم تصنيعه على يد مستر همفر ومن خلفه، آخذ بمنهج الخوارج ومن لفّ لفّهم، ولهم أشباه في الأزمنة الغابرة واللاحقة. وهذا النهج هو معين الإرهاب الذي تعاني منه الأمة اليوم، وأعني به التيارات التي تدعي نصرة الاسلام وتحقيق التوحيد الخاص ومقاتلة الطاغوت، رغم وجود توائم أخرى أهمها إرهاب الكيان الصهيوني. وعليه فالتنظير والتكفير والتفجير مستويات عامة لكل ذلك، فكل تنظيم إرهابي يعمد إلى استهداف من يريد تجنيدهم نظريا ثم حصرهم في رؤية أحادية لكل شيء يقصون من خلالها العالم الخارجي كله ويجيزون تدميره (وهو مما نعنيه بالتكفير)، ثم ينتقل إلى مستوى التفعيل والتدمير والفعل الإرهابي، وهو مستوى التفجير.
مستوى التنظير يعمد إلى إلغاء النظر وتعديل النظرية، فالنظرية العامة للمجتمعات المدنية هي التعايش والتفاعل الإيجابي، ولعل علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي social psychology علمان ضروريان لدراسة مستوى التنظير وآلياته، ثم انعكاسات ذلك على مرحلتي التكفير التفجير.
يعنى علم الاجتماع بدراسة المجموعات والمجتمعات البشرية وخصائصها ومقوماتها وتفاعلاتها وسلوكاتها ، ويعرف المجتمع على أنه ” جماعات من البشر تعيش على قطعة محددة من الأرض لفترة طويلة من الزمن تسمح بإقامة علاقات مستمرة ومستقرة مع تحقيق درجة من الاكتفاء الذاتي”. ويحدد مقومات المجتمع في: الأرض / البشر أي السكان/الاستمرار في الزمن أي علاقات تاريخية/الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي.
الأرض أساس مكاني، مع معطى عاطفي وجداني وتاريخي إنساني يجعلها موطنا ووطنا، وتقوم الحروب دفاعا عن الأرض أو رغبة في اكتسابها.أما البشر فلابد من مواثيق تحكم العلاقة بينهما معنويا وقانونيا، ومن سلوكات تجعلهم يميلون للوجود الاجتماعي، وهو باب على علم النفس الاجتماعي، في حين يكون التاريخ المشترك عامل ربط وصلة وثقافة مشتركة، غذ قسما من الثقافة ينبني من المعطى التاريخي التراكمي المرتبط بقوم ومكان بعينه. أما الحد الأدنى من الاكتفاء فهو باب للاقتصاد متصل بشكل كامل بالمجتمع والدولة ككل.

حين يبني العقل المدبر للإرهاب مستوى التنظير فهو يؤسسه على الآتي:
ـ 1ـ الأرض: لا وجود لأرض محددة، أي لا معنى لوطن، بل العالم كلّه مشروع سيطرة، فتكون النظرة للدول القطرية نظرة مقت لأنها شتت الأمة الواحدة وقامت على أنقاض الخلافة، ولا يكون في الوجدان شيء اسمه الوطن، بل يقع تعويضه بشكل تعويمي مثل دولة الإسلام التي لا وجود لها واقعا.
وعلى هذا الأساس يمكن ضرب الدولة الأم (الوطن) أو أي دولة أخرى، ويمكن الذهاب إلى أي مكان، وطبيعي أن الواقعين في حبائل الإرهاب المدعي لنصرة الإسلام يوجّهون ضرباتهم لكل دول العالم إلا دولة واحدة هي إسرائيل. والعجيب أن الجندي الصهيوني يدافع عن وطن ليس له، ويستوطن ويغتصب وطن غيره، في حين يمضي الواهمون في ضرب أوطانهم وتخريبها ظنّا منهم أنهم ينصرون الله ورسوله والدين الإسلامي، وهذه الإشارة يمكن تحليلها لفهم الروابط الخفية.
ـ2ـ السكان: يدرس علم النفس الاجتماعي العلائق الاجتماعية وسلوكات الإنسان في المجتمع والآلية التي تدفعه إلى أن يكون كائنا اجتماعيا. وضمن المستوى التنظيري فإن العمل يتمحور في فك كل الروابط الاجتماعية الطبيعية – العائلة، الحي، المجتمع عامة – وتقويضها تدريجيا، لخلق علاقات جديدة وجماعة مختلفة بروابط خاصة، فيعادي الشاب أمه وأباه – لأنهما كفار أو يتبعان أهل البدعة والشرك حتى بلغ الأمر بأحدهم وهو إمام أن يرفض دخول جثمان أبيه المسجد والصلاة عليه لأنه كافر وهو أمر حدث فعليا في مدينة بالساحل التونسي – ثم يمقت مجتمعه كله – مجتمع كفار ومشركين وطواغيت -. لتكون له علاقة مع من لا تربطه بهم أي صلة اجتماعية، لكنّهم بالنسبة إليه “إخوة”. فداعش مثلا أو القاعدة تضم شبابا من مختلف الجنسيات قدموا من مجتمعات عديدة بينها فروقات كبيرة لكن يتم تذويب كل ذلك في رابط الجماعة والعصبة والانتماء للتنظيم، سواء بشكل علني ضمن السفر إلى سوريا مثلا، أو بشكل سري – الخلايا النائمة -. وعليه فإن الدارس للسلوك الاجتماعي لضحية التنظير وفق علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، يجد لديه ميلا للعزلة والانغلاق والسريّة والغموض، ويجد أنه يعامل الأشخاص الذين نشأ على معرفتهم – العائلة والأقارب والأصدقاء وأبناء المدرسة والجامعة والحي – معاملة الغرباء، في حين يتعامل مع الغرباء – شيوخ وأشخاص لم يكن يعرفهم وبعضهم يتواصل معهم فقط عبر الانترنت وبأسماء مستعارة أحيانا، على أنهم أهله وعشيرته الذين يقتل من أجلهم أهله وعشيرته الحقيقيين. خلاصة القول إن المستوى التنظيري يهدف إلى ضرب سلوك الفرد في علاقته بالمجتمع وخلق بدائل وهمية تجعله يكره كل المحيطين به ويحب من لا يعرفهم حقيقة وينتقل بعدها للمستوى التكفيري الذي يُعبّر ويترجم ويصرّح من خلاله عن كل ما تم برمجته عليه في مستوى التنظير، فيكون تفطن العائلة والمجتمع حينها تفطنا مصدوما ومتأخرا جدا.
ـ3ـ الاستمرار في الزمن والعلاقات التاريخية: هذه العلاقات تخلق الثقافة، “فالثقافة من أنواعها وأبوابها الموروث الاجتماعي، ماديا وغير مادي، ثم ما يكتسبه الفرد وما يتميّز به من ثقافة عامة وخاصة، ويكون مظهره وملبسه وكلامه مكوّنا من تلك الثقافة، التي تتمايز بها الشعوب والمجتمعات والأفراد ضمن الخاصية والخصوصية الثقافية، ومن خلالها يمكننا التعرف على الهندوسي لغة ومظهرا ومأكلا ومسكنا، والروسي والياباني، أو اليمني والمغربي، أو الحلبي والدمشقي، ضمن تقسيم يمضي من الأمة والشعب والدولة إلى المدينة والعائلة والفرد، حتى نعرف شخصا من خلال نبرة صوته واختياراته الخاصة بمظهره ومشيته، ولكنها تخضع للخاصية الاجتماعية والوطنية والقومية، لتلتقي بالإنسانية العامة في خطوط كثيرة، وكل هذا يشكل التثاقف والتمايز. التثاقف يضمن التواصل والتعارف، والتمايز يحافظ على الهوية والكينونة.
حاولت العولمة تذويب الهوية والكينونة في لغة واحدة ومنهج واحد ومنطق واحد، وكان رد الشعوب الواعية بخطورة الأمر ردا قويا جعلها ترجع إلى تراثها وتصر عليه، إصرار الاسكتلندي على ملابسه المميزة، أو الهندوسي على عمامته الخاصة في بريطانيا.
إن غلق أبواب التثاقف يجعل المجتمع والفرد في سجن تواصلي تعارفي، وهو يؤدي إلى الخراب والتلاشي، وحتى حين حاولت الأنظمة الأكثر تتطرفا وفاشية فعل ذلك منيت بالفشل والدمار. أما إلغاء التمايز ونسف الهوية وتدمير الكينونة فموقع في الاستلاب والاستعمار الفكري والحضاري، وحين تذوب هوية شعب أو قوم فإن وجودهم المستقبلي يضمحل وهذا ما شهدته شعوب كثيرة اضمحلت وذابت في شعوب وهويات أخرى بفعل أو بآخر”.
بهذه الفقرة من كتابي تأملات ثقافية، ألج إلى مشروع التنظير وكيفياته الثقافية ضمن العلاقة المجتمعية التاريخية والزمنية. فمستوى التنظير يقوم على غلق أبواب التثاقف وخلق تمايز مختل. مما يعني أنه عوضا عن رغبة الفرد في التميّز في مجتمعه بفعله الإيجابي، مما يجعل له مكانة ودورا اجتماعيين، فإن البرمجة التنظيرية تقتضي أن يتميّز بمظهر خاص يصله بالجماعة، وهو مظهر لا علاقة له بمجتمعه، كما يتم بناء نظري لدور مختلف مثل الدور الدعوي والخيري، ولكن ضمن منهج وغايات تهدف في ختامها إلى تغيير ذلك المجتمع كليا ومحو هويته وتمايزه وثقافته الخاصة وتذويبه في بوتقة غريبة عنه، ويمكن دراسة ما فعلته داعش في الرقة وحلب وفرضها لنمط مجتمعي خاص وشاذ لفهم المخطط التنظيري وتطبيقاته. وتجدر الإشارة إلى أن الفعل الاستعماري ينتهد نفس النهج ولكن بآليات أخرى ونتائج مختلفة.
صلة ضحية التنظير مع مجتمعه زمانيا وثقافيا هي صلة مبتورة، ويزرع في ذهنه زمن محدد بشكل تهويمي ، وفي حالة ما نحن بصدده من الإرهاب ذي المرجعية الوهابية، فإن فترة النبوة الأولى هي الفترة المحورية، أو العقدة الزمنية التي يتم العمل عليها على غير حقيقتها. فالحنين لدى المسلم عامة لتلك الفترة هو حنين كبير وطبيعي وواجب، ولكن رسمها في المخيلة ورسم علاقتها مع الواقع يكون ضمن المستوى التنظيري رسما وهميا يعني بالأساس أن تلك الفترة هي الفترة النموذجية التي يجب إرجاعها ومحو كل ما كان بعدها لأنه محدث وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليه فإن الرجوع إلى الكتاب والسنة يلغي عمل الأمة واجتهادها وعمل علماءها وفقهاءها ومذاهبهم وفهمهم التطوري ويلغي كل الزخم الحضاري للأمة والتمايز الثقافي للدول المكونة لها. وعليه لا يعترف هؤلاء بأي فقيه أو عالم أو مجتهد أو مدرسة بل يقال أنهم ينهلون مباشرة من المنبع الأول الصافي، ويكون المعطى الحضاري التفاعلي معطى كفريّا فاسدا وفق فهمهم، فلا خير في الدستور والديمقراطية أو كل تطورات العصر وتفاعلات الأمم فيما بينها.
ولمزيد تعميق البعد التنظيري ومنحه فاعلية أكثر، قامت مسلسلات ممولة تمويلا كبيرا جدا برسم ملامح تلك الفترة ضاربة عرض الحائط بكل المبادئ فيتم تجسيم الصحابة ليس لخدمة الإسلام ونشره كما فعل العقاد في فلم الرسالة الذي أدخل مئات الآلاف للإسلام، ولكن بغاية أخرى، هي رسم صورة وهمية للحياة اليومية وللصحابة، ثم فتح رابط رمزي يكسر كل الزمن الثقافي والاجتماعي ليربط بين قيادي من داعش – شكلا ولهجة – بأحد أبطال المسلسل أي بمعنى آخر بأحد الصحابة فيكون شكل الممثل المتقمص لشخصية عمر صورة نموذجية يتم نسخها في شكل قيادي من داعش. وكذا مشاهد الحياة والأسواق تمت محاولة نسخها حرفيا في حلب والرقة. ثم الأخطر مشاهد الدم والقتل التي تجعل ضحية التنظير يعشق القتل والدم وقطع الرؤوس لأنه قتل لأعداء الله – مسيلمة الكذاب مثلا – ونصرة لله ورسوله. وتوظف صورة راية رسول الله والتكبير لتكون نماذج أخرى يتم الارتكاز عليها في تقوية الجانب التنظيري والتكفيري والتفجيري. وعليه تكون تجربة المجتمع السوري وقبلها “المالي” و”الصومالي” تجارب حية تثبت ما بينّاه وخطورته، لأن هذا النوع من الإرهاب خطير جدا ويهدف إلى تفكيك المجتمعات ثقافيا ومسخها كليا.
كما يعمل المستوى التنظيري على زرع نزعة عدوانية لكل الموروث الحضاري والثقافي للمجتمع، فيكون تدمير الآثار وتخريبها وحرق المقامات وتحطيم المقابر ضربا للنسيج الزمني والعقائدي والحضاري. ويمكن الحديث عن مجازر حضارية وثقافية وجرائم في حق التاريخ والهوية تمت في الحجاز في القرن الثاني عشر للهجرة وفي مالي وليبيا وسوريا منذ فترة قريبة.
ـ4ـ الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي: هذا القسم ربما يكون تمظهره تطبيقيا، وليس تنظيريا، ولكنه قد يخدم مستوى التنظير وما بعده، لأنه يعلم ضمن أساسين: يستغل عدم وجود اكتفاء ذاتي، ويتصيّد في الحالات الاجتماعية الصعبة والمفقّرة، ويستثمر في الضعف والفقر وقلة ذات اليد، فيغطي كل ذلك مع مضيّ البرنامج التنظيري في مساره. أو يعمل في الطبقات المتوسطة والميسورة، ولكن ليس من باب الاقتصاد، بل من باب غياب المعنى، أي أنه يمنح معنى لمن فقد معنى لحياته. لكن لابد من الإشارة أن الدولة حين لا تعتني بتوفير حد من الاكتفاء الذاتي لمواطنيها، وحين تتفكك المجتمعات اقتصاديا، يصطاد التهريب والإرهاب والإجرام المنظم، ويكون مستوى التنظير بين يدي خبير ماكر يمتلك علاقات مع كل ما ذكرنا من تهريب وجريمة منظمة، وربما كان شيخا من شيوخ التكفير ذا ثروات طائلة جادت بها عليه دول بعينها، ومع هذه الإمكانات، وفي ظل وجود إفقار مادي وفراغ معنوي وخواء روحي وتفكك اجتماعي أو ضعف بنيوي وتراخ من الدولة وقلة وعي من مسئوليها، كل هذا يجعل المجال متسعا للتنظير المحكم والتفكير العلني والتفجير الناسف في النهاية.
إن كل ما ذكرناه ضمن هذا المستوى في ربط مع علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي يمكن أن تكون له أطر أخرى عقائدية وفكرية وسياسية وإعلامية، ولها جميعا تمظهرات فعلية في الواقع وتجارب حقيقية ونماذج يمكن النظر فيها كحالات فردية أو كظواهر اجتماعية.
مستوى التنظير قد يستمر لسنوات، وقد يختزل في أشهر، ويستهدف أساسا المراهقين والشباب، وتخدمه عوامل كثيرة، مثل ضعف المنظومة التربوية والهشاشة الثقافية والتداعي الاقتصادي وكثرة البطالة وضعف الدولة والخواء الروحي والنفسي وغياب المعنى الوجودي وضعف الوازع الوطني والتفكك الاجتماعي والأسري، مع إضعاف الوعي وتفشي الجهل والفساد الأخلاقي والقيمي، والتصحر الديني والعقائدي، وكل هذه العوامل تترك المجتمع فريسة لأنواع كثيرة من الأمراض، وتركيزنا على الإرهاب والتكفير لا يعني غفلة عن مخاطر أخرى عديدة لها سياقات ذكرها.
مستوى التكفير ومستوى التفجير سيجسدان ما تمت برمجته في مستوى التنظير، ولكن لابد من الإشارة أن الذين يمرون بمستوى التنظير يتم انتقاء الأكثر تعصبا منهم للقيام بدور ميداني وحركي بعد تغلغل التفكير في عقولهم، وهنا يكون دور التنظيمات الارهابية والخلايا النائمة، أو شبكات تهريب المغرر بهم إلى بؤر النزاع، أما البقية فيقومون بإثارة القلاقل في عائلاتهم ومجتمعاتهم عبر تكفيرهم وتعنيفهم لفظيا أو ماديا ورفضهم ومحاولة تحويلهم إلى نهجهم بكل الأساليب أو مقاطعتهم.
نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها، لنفترض أن مستوى التنظير استمر لخمسة أعوام، وتم إغراق ألف شاب فيه، ثم سيطر التكفير الكامل على مئة منهم، ومرّ عشرة للتفجير، وقام كل واحد منهم فقط بتفجير نفسه في مكان عام، أو مكان حيوي، فكم سنة من العمل والبناء سيكلّف الدولة؟ وكم مواطنا سيتضرر بشكل مباشر وغير مباشر جراء ذلك؟ وما مقدار الخسارة الاقتصادية؟
إن تخصيص ميزانية لمحاربة الارهاب ضمن مستواه الأول (المستوى التنظيري)، عبر بدائل ثقافية واحاطة نفسية واجتماعية وتوعية دينية وإصلاح اقتصادي وتوفير المعنى (الحرية والكرامة) والمبنى (العمل والحياة الكريمة) لن تكون مهما بلغت عشر خسارة علمية إرهابية فعلية واحدة وما ينجر عنها من استتباعات داخلية وخارجية.
أما المستوى التكفيري، فهو على مرحلتين:
*مرحلة يكون فيها مجرد موقف عام من المجتمع ويمكن مجابهته بالحوار والتوعية.
*ومرحلة يتحول فيها إلى خطر على المجتمع، وحينها لابد من سلبه كل أماكن الارتكاز والانتشار، مثل المساجد والجمعيات التي يختفي خلفها، ولابد من موقف إعلامي واضح وغير حيادي، بل يكون مواليا للوطن ومواليا للتعايش والسلم الأهلي، ولا يعطي منابر الإعلام للتكفيريين لتمرير فكرهم، كما تجب مراقبة المواقع التواصلية وغلق منافذ الشبكات الخاصة بالتكفير لأنها بؤر لتحويل الشباب من التنظير إلى التكفير الذي لا يجر خلفه سوى التفجير. كما لابد من الحزم في مجابهة التكفير بقوة القانون وسلطة الدولة التي تحتكر وحدها استخدام القوة كما يقول ماكس فيبر، الذي عرف الدولة: بأنها الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية، وأصبح هذا التعريف محورياً في دراسة علم السياسة.
في حين يكون المستوى التفجيري مجال عمل استعلاماتي وأمني وعسكري بقرارات حازمة وبمنظومات للتصدي واليقظة والدفاع والردع والاستشراف.
إن ما بينته في هذه الدراسة يرتبط بدراسات ومقالات سابقة، وتليها دراسات لاحقة، تصب كلها في فهم أعمق للإرهاب ونظمه وتمشياته وكيفيات تفكيكه ومحاربته، وفق أطر علمية مختلفة ومتعددة لها نفس المؤدى: التحليل والنقد والفهم ومنح الاستراتيجيات والسبل، لأن كل معضلة وداء لابد لها من حل ودواء، ولا يمكن إيجاد حل أو صناعة دواء دون معرفة الداء وفهم المعضلة، ودون علم بآليات الحلول وعلم الأدوية، وعليه يكون الفهم والتحليل الفكري العلمي، ثم الخبرة والمعرفة، من أهم الأسلحة التي يمكن من خلالها مجابهة آفة الإرهاب، ومختلف الآفات الأخرى، وهي أيضا أسلحة للمناعة والدفاع، ووسائل لكل بناء حضاري قويم، يقوي الفرد والمجتمع والدولة، ويرتقي نحو الأجمل والأفضل والأقوم.

****
يعود تأسيس علم الاجتماع إلى ابن خلدون الذي سمّاه علم العمران، ثم إلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت الذي حدد المفاهيم والتعريف وجملة من القواعد، ليظهر بذلك اسم علم الاجتماع Sociologie سنة 1838، والمدرسة الوضعية كتمشٍّ علمي تحليلي تم تطبيقه على علم الاجتماع. كما تم بلورة مفهوم الحقيقة الوضعية التي تنطلق من إعطاء الأولوية للكل على الجزء لأن “الوحدة هي النمط الطبيعي للوجود الإنساني”، وهذا مثّل ضمن الجانب الاجتماعي تذويبا كليا للفرد وسلبا لكل كيانه في الكل الجمعي، وكان موضع نقد من علماء كثر. أما الأب الثاني لعلم الاجتماع الحديث فهو الفيلسوف البريطاني هيربرت سبنسر مؤلف أول كتاب فيه، منتصف القرن التاسع عشر، (كتاب “علم الاجتماع”) وكذلك كتاب ” الرجل ضدّ الدولة” الذي أوجد فيه مصطلح “البقاء للأصلح” – رغم أنه نُسب لدارون –”و اشتهر بنظريته عن التطور، وقد استند على هذه النظرية في وضع الأسس لنسق ومنظومة اجتماعية تؤكد التطور تجاه تعقيد اجتماعي متزايد وارتفاع درجة الفردية”.
ومن المؤسسين أيضا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم مؤسس القسم الأوروبي الأول لعلمِ الاجتماع سنة 1895 في جامعة بوردو، الذي أسس لعلم الاجتماع منهجية مستقلة تقوم على النظرية والتجريب في آن معا. ثم عملاق علم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم الاقتصاد، الألماني ماكس فيبر، الذي عرفّ الدولة ودرس الأديان وأعطى تعريفا دقيقا للبيروقراطية التي بناها وأسسها نظريا.
والقائمة كبيرة تضم أيضا كارل ماركس و فيردناند توينيز وغيرهم، ليصبح علم الاجتماع من أهم العلوم الانسانية التي يتم توظيفها وتعميقها بشكل متواصل ونفعي، أي لمنفعة الدول والمجتمعات وليس من قبيل العلم النظري المجرد أو العلم من أجل العلم، وهذه مسالة فلسفية ناقشها عمالقة الفكر، الذين رأوا أن العلم عليه أن يكون نفعيا للإنسانية قادرا على ملامسة الواقع، لا مجرد تهويم. ولعلنا حين نرجع إلى كونفشيوس نجد عالم اجتماع كبير نادى منذ القرن السادس قبل الميلاد بمجتمع أفضل، وهو القائل الرقي الذاتي هو أساس الرقي الاجتماعي./استقرار الأسرة هو أهم ضمانة للوصول إلى النظام الاجتماعي المنشود./لا يمكن تحقيق المساواة إلا من خلال نشر العلم.

سوسة30‏/03‏/2014‏ 11:09:33 م

منشورات ذات صلة

في فن الاستباق الدكتور مازن الشريف خبير في الاستراتيجيات الامنية والعسكرية ومكافحة الارهاب خبير في علم الاستشراف والمستقبليات. رئيس المنظمة الدولية للامن الشامل
يمثل الفن عصارة الرقي البشري والاتقان الانساني في كل مجالات الحياة، فكلما بلغ العمل مستوى الابداع والعبقرية والاتقان تحول من فعل عادي إلى فن:...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (31) : الفصل الخامس: الملحق: شرح مصفوفة النظرية العامة
بعد شروحات كثيرة من منظورات مختلفة لنظريتي الثلاثية (التنظير، التكفير، التفجير) والتي تحققت مراحلها وثبتت دقتها، فإني سأشرح نظريتي العامة ضمن مصفوفة تحتوي النظرية...
5 دقائق للقراءة
الأمن الثقافي المعنى وحتمية الحاجة
مقدّمة: مثَّل الأمن جوهرا إنسانيا حضاريا منذ بدايات اجتماع البشر في قبائل ثم مدن وصولا إلى الدول، بل إن له قيمة حتى في التكوينات...
11 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (29) : الفصل الخامس: الملحق: وباء الوهابية
*نُشرت في عدد من الصحف كالتي في الصورة. قبل سنة 2007، لم أكن أعرف شيئا عن الوهابية، ككل الشباب من جيلي، لم نكن نسمع...
6 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (28) : الفصل الخامس: الملحق
يحتوي هذا الملحق على دراسات اخترتها بعناية، أولها حول وباء الوهابية ونظريتي “التنظير، التكفير، التفجير”، ثم تفسير لتلك النظرية عبر آليات علم الاجتماع، وهذه...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (27) : خاتمة
ليس الإرهاب مقاتلا يحمل بندقية أو انتحاريا يفجّر نفسه فقط، فتلك خلاصة التمشي الذي بدأه عقل مدبّر ووقع فيه عقل مدمَّر تمت السيطرة عليه...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (26) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاستراتيجي
هو بعد معقد جدا، وهو أعقد الأبعاد وأكثرها تخللا للتمشيات، لأن الإرهاب استراتيجيا، وله استراتيجيات داخلية، تصب كلها في مصالح معينة تستخدم بيادقها لتخرب...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (25) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الدولي
ليس الإرهاب حركة معزولة، بل هو نظام كامل، وشبكة معقدة، وعبر التاريخ كله لم يكن منفصلا أبدا عن مطامح ملك في مملكة يريد أن...
< 1 دقيقة للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (24) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاقتصادي
هو بين متناقضين: حالات من الفقر المدقع التي تضغط على النفس وتمثل مجالا تنشط فيه التمشيات التي تستهدف العقل الإرهابي. وحالات من الرفاه المتخم...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (23) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاجتماعي
البعد الاجتماعي ينطلق من مدى التفكك المجتمعي، ومن مستوى الوعي في المجتمع، ومن حالات الاتزان أو فقدان الاتزان، والمعطى الأخلاقي القيمي ومدى حضوره، وكذلك...
< 1 دقيقة للقراءة