فرعون ذو الأوتاد..ووهم الرب الأعلى

15 دقائق للقراءة

ليس الوهم بالنسيج البسيط، رغم أن جوهره بسيط بل وتافه، لكن تفاصيله معقدة جدا، وما يحيط به من طاقات ظلامية وقوى مَغنَطة وزينة تجعل الفكاك منه أمرا عسيرا.
ولعل من ألذ أنواع الوهم: الأهواء.
فالأهواء أوهام تلتحف بالمتعة واللذة. وليست اللذة والمتعة في جوهرها وهما بل لها حقيقة، ولا هي في بند الحرام حصرا بل هي في ما أحل الله أولى وأسبق، وأفضل وأصدق، أم ليست الجنة فيها كل ما تشتهي النفس والعين ويلذ للروح والجسد: “وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) (الأنبياء)”.
ولكن الأهواء صبغة بين اللذة والوهم، فهي سراب النفس وسمها تنفثه في ابن آدم فيصير رهينا لها وسجينا فيها، ولذلك أمر الله نبيه الكريم بالحكم بالحق الذي أنزله الله، وأن لا يتبع أهواءهم وأوهام أنفسهم: “وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (49) (المائدة)”.
كما نفى عن ذاته العظيمة وهو الحق اتباع الأهواء وإلا لكان من وراء ذلك فساد السماوات والأرض ومن فيهن: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ (71) (المؤمنون).
فالأهواء لو كان لها السلطان لأفسدت الملكوت، وهي كما ترى تفسد الأرض كما أفسدتها مرارا.
وعلى اختلاف مراتب الوهم، الذي يسحب من يأسره كما تفعل العنكبوت بمن تصطاده في شبكتها، ثم يذره أجوف فارغ، فإن هنالك أوهاما أشد فتكا وتدميرا من غيرها، ولست أرى وهما أضل ولا أذل أو أطغى من وهم فرعون: “أنه الرب الأعلى”.
وهو وهم مهلك، أهلك وسيهلك، لأن فرعون الأخير أطغى كثيرا من فرعون الأول وأكثر فسادا وعتادا وأقوى جندا، ومصيره أسوأ من سابقه.
يذكر القرآن الكريم ذلك في وصف مشهدية “الفرعنة” والعناد والجحود: “فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)” (النازعات).
للآياتين ما قبلية فيها بيان خبر النبي موسى، وما بعدية فيها تسلسل الآيات وردود فعل فرعون وصولا لنهايته.
ولا بد من الاشارة بداية إلى أن القرآن الكريم جعل النصيب الأكبر من قصصه لقصة نبي الله موسى مع فرعون، إذ أن اليهود كانوا الأكثر جدلا للنبي والأكثر علما بالكتاب، كما كانوا الأشد عداوة وحربا على نبي الإسلام وعلى دينه، في حلف مع المشركين، وما يزالون كذلك، إلا من كان منهم من أهل البصيرة الذين لا يخلو منهم جيل ولا فترة رغم قلتهم.
يذكر الله سبحانه بيان ذلك في قوله: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)” (المائدة).
وعليه فأتباع السيد المسيح المخلصون أكثر مودة، وفيهم قسيسين ورهبان مدحهم الله في كتابه، مع وجود فسقة كالذين ساموا الناس العذاب باسم المسيح وباسم الكنيسة وكصهاينة الصليبيين، مع الاحترام الكبير لكل اليهود الذين هم على نهج النبي موسى وتجدهم اليوم يتعاطفون ويساندون أهل فلسطين ويجابهون الصهيونية ويُقتل منهم من يٌقتل من أجل ذلك.
ثم إن السبب الآخر لكون خبر نبي الله موسى هو الغالب على قصص الأنبياء في القرآن، أن الوعد الختامي متعلق بقومه، وأن فرعون سوف يتمظهر في قومه في عهده ومن بعده أكثر من تمظهره في فرعون نفسه، حتى يأتي وعد الآخرة.
ولعل فرعون يشكل لازمة في القصة، وضروري في خبر كل نبي وصالح ومصلح، بمعنى أن قانون العداوة الذي وضعه الله منذ بدايات المرحلة الآدمية، أي إبان نزول آدم إلى الأرض: ” قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) (الأعراف).
وكذلك قانون الفتنة (وهو أكثر تعقيدا من قانون العداوة وقانون العداوة قد ينضوي فيه) الساري على بني آدم كما سرى على أمم قبله ممن عمروا الأرض وعوالم وكواكب أخرى تحت بند التكليف وتأثير قوى الخير والشر: “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ (20)” (الفرقان).
كل ذلك يفرض وجود ممثل للحضرة الالهية، ونقيض شيطاني بشري يختزل طاقات الشر، ولكن وجوده ضروري لظهور ممثل الحضرة الربانية بل وسابق له، ولعله يولد ويعيش بجواره دون أن يتفطن له كما لم يتفطن فرعون لموسى وقد نشأ في قصره.
ويختزل الله سبحانه وتعالى هذا القانون الذي اودع فيه ما أودع من حكمته في آيتين عظيمتين: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ (31) (الفرقان).
“وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (112) (الأنعام)”.
فهذا الجعل حكمة، ولكل نبي مجرمون يحاربونه، وحلف شيطاني إنسي وجني يعاديه. وعليه فإنه لا بد من وجود “فرعون” لظهور نبي الله موسى ومن كان على نهجه، وسابق له، وسيحاول منع موسى من الظهور، فيجعله الله منه قريبا بمكره وكيده حتى يعرفه حق المعرفة، ثم ينجيه منه إلى خلوة ما، ثم يرجعه بالجلوة والأمر، ويجعل بينهما صراعا، ثم ينصر الله من يمثل حضرته رغم البلاء السابق، ويمحق عدوه بالفناء الساحق.
هذه قاعدة عامة يمكن تطبيقها مع تغيير الأسماء: نوح وقومه، صالح وقومه، وصولا الى رسول الله محمد، ثم إلى كل صالح ومصلح ورجل من رجال الله، إلى المهدي نفسه: لا بد من ظهور فرعون الزمن الأخير بكل قوته التي تفوق كثيرا قوة فرعون الذي سبقه، وأن يكون الإمام منه قريبا وهو لا يشعر، ثم يظهره الله ويجعل مصير فرعون آخر الزمان كمصير فرعون زمن موسى بل وأسوأ وأذل، بقوة أعظم وبرهان أجلى.
في قصة فرعون دقائق ومعان كثيرة يجب الانتباه إليها، لأني أعتقد أن فرعون يمثل “الشر النموذجي” إن جازت العبارة، أي نموذجا جامعا لأنواع الشر بالغا قمتها في البعد البشري، نموذجا معقدا من الوهم والأهواء، والأغرب أنه سوف تنتقل روحه ويتسرّب شرّه إلى من كانوا ضحاياه (أي إلى بني إسرائيل)، ولكن ذلك ليس حصرا عليهم، فكم من طاغية وفرعون ظلم أمة محمد وحكمها بنفس روح فرعون الأول بل وأشد وأعتى.
وكم في الأمم كلها والأديان جميعها من فرعون سابق لفرعون ولاحق له، أم أن قاتلي ابن فاطمة، ومرتكبي المجازر الفظيعة، ومجرمي الحروب الصليبية وما بعدها وقبلها، أو هتلر ومدبري الحرب العالمية أقل فرعنة، بل هم أضل وأطغى وأشد ضررا بالعالم كله.
ومَن هم اليوم أشد لاقتراب زمن الظهور.
وعليه لابد أن يظهر فرعون أو فراعنة آخر الزمان ونمرود وهامان وقارون وعاقر الناقة وقوم لوط: كل سفلة الأمم السابقة في زمن واحد: الزمن الاخير.
معنى ذلك أن نموذج فرعون يشبه الفيروس، جرثوم معقد فاسد مفسد، وتصيب عدواه من كانوا ضحاياه، ثم ينتقل ذلك الوباء انتقال بقية أوبئة الأقوام الفاسدة عبر الأمم حتى يكتمل قوة وضراوة وشرا واستكبارا في ما سماه الله سبحانه في القرآن الكريم بـ”الأمة المعدودة”. حينها يكون لدى فرعون آخر الزمان إمكانيات لم يكن فرعون زمن موسى يتخيلها، فكيف سينادي فرعون آخر الزمان، أليس أشد وهما وهوى ليحشر فينادي أنا ربكم الأعلى، ولو باختلاف العبارة أو بكلام الحال دون المقال.
لنرجع إلى خبر فرعون، منذ بدايته، حيث يكون ذكره في القرآن الكريم مرتبطا بولادة نبي الله موسى والأمر الصادر إلى أمه بأن ترضعه وتلقيه في اليم: “يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ (39)” (طه).
فيكون أول ذكر لفرعون ضمن بواكير قصة نبي الله موسى (نرجع إليها في المقال الموالي) هو باسم العدو، فهو ضمن بند قانون العداوة الذي فصلته في الجزء الثاني من موسوعة البرهان ضمن باب علم القانون.
ولكن الله جل في علاه يسرد في القرآن الكريم مختزل قصة فرعون بداية مما قبل نبي الله موسى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) (القصص)”.
يتمحور شر فرعون في أنه:
1/ علا في الأرض: والعلو في الأرض استكبار وطغيان وغرور.
2/ اتخذ أهلها شيعا: تفريق الناس وتقسيمهم وتشتيت شملهم، والإفساد في المجتمع ونشر الفواحش، والظلم والعدوان.
3/ استضعاف طائفة من الناس (وهم بنو إسرائيل أساسا) فقتّل أبناءهم واغتصب نساءهم أو عذبهن وسجنهن ظلما.
أليس من العجيب ان ترى الصهيوني اليوم يحذو حذو فرعون فيما فعله بأجداده. فتلك لعنة أخرى حاقت بهم ولهم مصير أشد إيلاما من مصير فرعون.
ولكن فرعون لم يكن في هذا الغي وحده، بل كان له أربع دعامات:
1/ وزيره هامان، فلا بد لكل فرعون من هامان فاسد فاسق يزين له الباطل ويبعده عن الحق ويعميه حتى لا يرى.
2/ جنوده وجنود هامان: لعل لهامان فيالق خاصة به.
وفي سورة القصص ذكر للجنود بنسبتهم إلى فرعون وهامان.
وهؤلاء الجنود سفلة لا رحمة في قلوبهم، وهم أذرع فرعون وهامان وسبب لمزيد الغرور والاستكبار.
3/ قوم فجرة كفرة، سيطرت عليهم الأوهام وأكلت قلوبهم الأهواء، فهم سعداء بشقاء ضحاياهم، أغنياء بفقر من يستضعفونه، يستعبدون الناس، ويمارسون كل الرذائل، لطّخ الربا أموالهم والسحت والحرام، وهم في ظاهر الأمر منعّمون مترفون، يعيشون في ترف الحضارة والمعمار والكنوز، وفي كل ما تشتهي أنفسهم ويلذ لهم، لكنهم في حقيقة الأمر في جحيم يطبق عليهم بعد حين، فهم نسخة من قوم لوط وقوم صالح وقوم هود ممتزجة، وأصابتهم لعنة الازدهار أيضا بعدما بلغوه من رقي في العلوم والمعارف والعمران، وراثة عن آبائهم، فتجد الاهرامات كشاهد على ذلك، ولا تخلو حضارة الفراعنة من فترة كان فيها صلاح الحاكم والرعية، ومن نوابغ في العلم أثروا الثقافة الانسانية بما يحير العقول إلى اليوم، ولعل نبي الله إدريس كان بينهم يعلمهم ويطورهم، ولعلها حضارة أقدم كثيرا من فرعون زمن موسى، ولكن تعاقب الأيام وسيطرة الأهواء والأوهام ولعنة الازدهار والحضارة وبلوغ نقطة الفناء جعل قوم فرعون على ما أصبحوا عليه وهو قانون منطبق على جميع الأمم: “فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) (مريم).
فقوم فرعون إذا قوم فاسقون اشتركوا معه في الجريمة:
” فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) (الزخرف)
ولذلك استحقوا العقاب في الدنيا معه، والعذاب في الآخرة أيضا، وهو أمر سار على كل قوم فاسقين يتبعون فرعونا ظالما طاغيا:
” يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) (هود).
ولفرعون مساندون آخرون من بينهم السحرة الذين سيحتاج إليهم لاحقا، وهم أصحاب القدرات على التزييف والخديعة والتضليل، أشبه ما يكون بالإعلام العميل وناشري الرذيلة والشذوذ عبر قوة السينما والصورة وادعاء التفلسف والحرية…
والخونة مثل قارون وهو من قوم موسى (سنرجع إلى تفصيل خبره)، فالخائن المتواطئ مع أمثال فرعون يغلب عليه الثراء الفاحش والترف الفاسد، وكذلك أمره إلى يوم الوعد الموعود، ولعل لقارون اليوم حضورا أجلى وكنوزا أكثر ومصيرا أتعس.
لكن كل ذلك الشر لدى فرعون لم يكن شيئا أمام بوابة الوهم التي انفتحت عليه حين رأى نبي الله موسى، فجنون العظمة أفقده صوابه فقال لقومه مباهيا مفاخرا وهازئا ساخرا: ” وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) (الزخرف)”.
وهذا نموذج يستخدمه كل متفرعن في الأرض وكل فرعون طاغية، فالسخرية من أهل الله، والنظر إلى حالهم الناسوتي الذي يغلب عليه الفقر والبساطة، دون نظر إلى حالهم اللاهوتي العظيم، هو الوهم الذي يعميهم عن الحقيقة، وهذا تجده في نظر الأمم الهالكة إلى رسلها، كقول قوم شعيب لنبيهم: “قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) (هود)”.
والضعف المادي الظاهري يختفي خلفه سلطان الجبار العظيم، فلو أنهم رأوا من خلال ذلك لما هلكوا، ولكن غلب عليهم الكتاب.
وكذا كان فعل كفار قريش مع الصادق الأمين في استكبارهم وعلوهم ونظرهم إلى مظهره الناسوتي نظرة خادعة فقد كان مجلاه الناسوتي عظيما كمجلاه الرباني، ولكن غرورهم أعماهم وأصمّهم وغلب عليهم الحسد كحال الوليد بن المغيرة الذي نزلت فيه الآية: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) (الزخرف).
بل يمتد ذلك إلى الاستهزاء بمن يتبع المرسلين ومن يسمع للصالحين والمصلحين، والتغامز والضحك، والتقليل من شأنهم، والتنكر لهم، والتندر بأحوالهم وأقوالهم، والصد عنهم، وما أروع الوصف القرآني بعد تبيان نعيم المؤمنين في الجنة: “إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) (المطففين)”.
وكل ذلك من شدة سيطرة الوهم عليهم وغواية التزيين الدنيوي التي تعمي القلوب والأبصار، فتراهم يسخرون من المؤمنين بشتى أنواع السخرية التي جعلت اليوم قدرات التقنية البشرية المتطورة والرقمية في خدمة زيغها فصار للسخرية برامج تلفزيونية وكتب وأفلام وسواها مما يزهد الناس في الدين والاستقامة ويزين لهم الفساد والإلحاد والشذوذ.
” زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) (البقرة)”.

كما أن سنة الله اقتضت أن يكون كثير من أتباع الحق مستضعفين في الأرض، فلا يكون ذلك إلا محفزا لمزيد الطغيان والصلف لدى أعداء الحق وأعداء الأنبياء وربهم، كحال قوم نوح: “قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)” (الشعراء).
ثم ينظر فرعون بعد السخرية والتقليل من شأن عدوه (النبي المرسل إليه من الحق سبحانه مأمورا بالحوار والرفق والقول اللين)، ينظر إلى حاله وما هو فيه، وهي نظرة عمياء بلهاء مخدوعة مغرورة، وخادعة لصاحبها مسكونة بأسوأ الأوهام والأهواء: ” أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي”.
ولكن الأخطر أن تلك النظرة صادقة في مظهرها المادي: نعم لفرعون ملك مصر، والأنهار تجري من تحته، وعاد أصحاب إرم ذات العماد لم يكن في زمنهم من هو أشد منهم قوة من بني البشر، فهم حين قالوا من أشد منا قوة كانوا “صادقين” في الجانب المادي.
هذا وهم آخر، وهم خبيث متمكن يعرف بني آدم جيدا، له صلة مباشرة بابليس الذي سيعترف في ختام قصة الدنيا ضمن مرحلة آدم وبنيه (وهي المرحلة الأخيرة) بالحقيقة، فيقول ما سنبين خبره في قصة إبليس عن أن الله وعد الناس وعد الحق ووعدهم فأخلفهم، وعن أنه يفر ويقول أنا أرى ما لا ترون في كل مرة ينزل فيها جند الله لعقاب أمة باغية.
هذا الوهم هو وهم “النظرة المادية الجاحدة”. ليست الفلسفة الوضعية (التي أسسها الفرنسي الفيلسوف وعالم الاجتماع أوغست كونت ( 19 يناير 1798 – 5 سبتمبر 1857) ، والذي يرى أن الإنسان مر بمرحلة الخوف من السماء وادعاء النبوة وكل ذلك أساطير بالية حتى بلغ المرحلة الوضعية التي يتخلص فيها من كل تلك الأوهام ولا يكون له حاكم سوى العقل المادي ولا شيء غيره، وأن المعرفة هي فقط المستمدة من التجربة الحسية) سوى مظهر من ذلك، ولا هرطقات من جعلوا من نظرية داروين دليلا على تشكيل الخلق دون حاجة بيولوجية إلى إله كما يردد تشارلز دوكينز وجوقته اليوم (ارجع الى كتابي عن الالحاد)، وكذا ما وقع فيه هوكينغ في أن الكون لا يحتاج لشيء سوى الجاذبية وأنه “سيطرد الله من عالم الفيزياء كما طرده داروين من عالم البيولوجيا” كما صرّح ذات مرة مباهيا.
وتماما كما كان فرعون يصيبه الرعب كلما تحولت العصا إلى أفعى، ويتوسل كلما ضربته آية عذاب من دم وسواه (تسع آيات) ثم يرجع إلى طغيانه، فأصحاب النظرة المادية الجاحدة كل مرة تسحقهم حقائق في الكون فيرون أن لا علم لهم ولا حول ولا قوة، وتبهتهم أمور في الأرض والعالم من حولهم (كمثلث برمودا وسواه كثير) فيوقنون أنهم لم يعلموا إلا قليلا، ولكنهم يرجعون مجددا للغرور والصلف وادعاء المعرفة رجوع فرعون إلى غيه، وتسيطر عليهم مجددا أوهام المادية الجوفاء.
إن النظرة المادية الجاحدة تجعل صاحبها يقول الصدق وهو يكذب، لأنه يقول جانبا من الحقيقة هي باطلة إذا انحصرت في مظهرها المادي فقط.
أجل لم يكن زمن هود أقوى من عاد ولا أعظم من إرم ذات العماد ضمن ما يحيط بها من عالم البشر، لكن الله أعظم، ولله جند أعظم، وسماوات أعظم، وجنة أعظم، وملكوت أعظم فيه مدن وكواكب وحضارات أعظم: نفس الأمر اليوم لأنها عاد الثانية وإرم الأخيرة كما بينت في مقال لعنة الازدهار.
أجل: كان لفرعون ملك مصر وكانت الأنهار تجري من تحته، لكنه لم يكن سوى عبد وضيع، فقير لخالقه، ضعيف أمام جبروت الجبار العظيم، وكان ملكه ملكا دنيويا لا يساوي عند الله جناح بعوضة، وليس سوى نقطة في بحر ملك الله العظيم.
أجل: التجربة الحسية لها دور معرفي، لكن عدد المعارف التي حصلها الانسان بالتأمل الفلسفي وحتى التأمل في مجال الرياضيات كقوانين آينشتاين وسواها، أعظم مما جربه وعاينه، وإن نظريات الفيزياء الكونية تتكلم عن أمور من المحال إخضاعها لأية تجربة حسية، أم أن المادة السوداء والثقوب السوداء والنجوم النيترونية والمجرات وأسرار فيزياء الكم التي فيها ما لم يقدر عقل بشري إلى اليوم على شرحه، كل ذلك مر بوضعية كونت وبالتجربة الحسية والمعاينة المادية، إنما ذلك الغرور الذي حدا بعالم الفيزياء الشهير نيل تايسون أن يقول “أن الله ليس سوى سدّ للثغرات التي سيسقطها العلم تباعا”، فهو “إله سد الثغرات لا غير”، وستجد ردي عليه في كتابي عن الالحاد.
أجل: بلغت حضارة البشر اليوم أكثر مما كان يحلم به فرعون، فلهم ملك الكوكب ولهم أنهار تجري وناطحات سحاب تعلو، وأسلحة نووية فتاكة وطائرات سريعة وأقمار صناعية دقيقة ومنظومات رقمية مذهلة وأساطيل كبيرة وإحاطات بعلوم ومعارف وقدرات تكنولوجية وتقنية ومعلوماتية بلغت عالم الكم وتسريع الجزيئات وتصادم الهكزونات، ولكن كل ذلك حين يكون مصدر غرور هو حال عدمي شبيه بحال فرعون وهو ينادي قومه أن يبصروا ملكه العظيم والأنهار التي تجري من تحته.
لكن الأمر لم ولن يقف عند هذا الحد، بل سترى مكّوكا اسمه “المتحدي challenger”، أرادوا ارساله للقمر وانفجر بعد إطلاقه، فهو المتحدي لمن، لله؟
وكلاما عن الاستعداد لحرب النجوم ومواجهة الكائنات الفضائية، وأفلاما تصور ذلك بدقة، وهم يقصدون محاربة الملائكة بل ومحاربة الله نفسه وتحديه.
وهو نفس فعل فرعون ضمن مستواه الأول: صناعة قمر صناعي وصناعة مكوك فضائي للوصول إلى الثقوب السوداء وما بعدها والسيطرة عليها وتسخيرها، ولتحويل الإله إلى مجرد ركام من الأوهام التي كان يرددها الانسان وهو عاجز خائف قبل أن يصبح صاحب عقل وضعي مادي، وقبل ان يتحول من مؤمن بائس إلى ملحد عظيم، ومن أحادي خلية إلى الإنسان الكامل المعاصر الذكي القوي الذي لا يُقهر ويعرف كل شيء ويمكنه تفسير أي شيء، فكل من تراهم هم ناطقون بحال فرعون الأول وهو ينادي وزيره هامان: ” فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ (38) (القصص).
كلما شاهدت برامج الناسا (وكالة الفضاء الأمريكية) وكلما تابعت كلام ستيفن هوكينغ عالم الفيزياء الكونية والعقل الأقوى في عصرنا في ذلك المجال وفق ما تم تصنيفه، إلا ورأيت فرعون ينادي هامان أن يوقد له على الطين ليطلع إلى الإله، بل وترى هامان وهو يبني الصرح، وتراهم يرتقونه، ويصعدون إلى أعلاه، في صعود للقمر، وفي نظريات عن السيطرة على المريخ، ولكن لم تكن لهم احتمالية فرعون الذي قال ربما هنالك إله لموسى ثم رجع فقال أظنه كاذبا وكان يوقن أنه صادق، إنما لدى هؤلاء نزعة إلحاد غالبة عليهم، ولئن كان كبار علماء بينهم مؤمنين أيضا وعلى رأسهم صاحب نظرية النسبية ألبرت آينشتاين الذي كان يؤمن يقينا بوجود إله خالق عظيم وحكيم كما عبر عن ذلك مرارا، ولكن آلة فرعون وهامان الاعلامية لم تظهر إلا الملاحدة الذين يدجلون على الناس بأن العلم أوصلهم أخيرا إلى اليقين الكلي بعدم وجود إله، ضاربين بأية نظرية علمية مهما كانت قوتها (كنظرية التصميم الدقيق) عرض الحائط محاربين لها بالقوانين والتشريعات لفرض تدريس نظريات الالحاد الداروينية والفيزيائية للاطفال في المدارس دون سواها، ولديهم برامج وثائقية وأفلام كثيرة تريد أن توهم أن الانسان ليس سوى ناتج مصادفة كيميائية عشوائية التطور من نماذج سابقة منها القرد وصولا إلى أحادي الخلية، وأن من بين الله أنه من آياته العظيمة في الخلق ليس سوى بكتيريا تطورت عشوائيا (رغم أن سوط البكتيريا من آيات الله الكبرى كما اكتشف العلماء)، في أرض وُجدت مصادفة ضمن وجود كوني نشأ ذات لحظة من اللائيء صدفة. وأن هذا الكون بكل العظمة والدقة التي فيه وكل كائناته ليس سوى عمل صانع ساعات أعمى كما قال تشارلز دوكينز زعيم الملاحدة الجدد.
ولكن المضمون الحقيقي لكلام هؤلاء، هو ما صرح به فرعون وكان أكثر جرأة منهم، وهو أنهم يرون أنفسهم آلهة، وكل واحد منهم يقول “أنا ربكم الأعلى”: سواء من لديه قوة الاقتصاد ومال قارون، أو من عنده قوة السلاح والجيوش وجنود هامان، أو من عنده الملك والأنهار تجري من تحته كفرعون، أو من كان أشقاها فيعقر ويقتل ويسفك، أو من كان على نهج قوم لوط شذوذا وفسوقا، أو من كان كقوم عاد قوة وحضارة وازدهارا وغرورا، أو من كان في بطش قوم شعيب واستكبار قوم نوح واصرارهم على الكفر، أو من لديه وهم العلم ومعرفة أصل وسر الحياة والقدرة حتى على تجاوز الموت وإخضاع الطبيعة والأرض والكون كله لسلطانه ولو بعد حين كطلب فرعون من هامان ورغبته في الاطلاع على رب موسى، كل هؤلاء في الحقيقة يقولون كلاما واحدا ولو لم ينطق أحد منهم به صراحة كما فعل فرعون الأول، ففرعون آخر الزمان (قد يكون اسم جمع) أكثر مكرا وهو يقول ظاهر اللفظ أنه يمثل الرب حينا ويقول أتباعه أنهم ملاحدة حينا، ولكن الكلمة الحقيقية والوهم الأطغى الذي يسيطر عليهم جميعا هو ما أسميته “وهم الرب الأعلى”، والعجيب أنهم يرون أنفسهم ربّا اعلى وذلك وهم، ويقولون أن الرب الأعلى الحق سبحانه ليس سوى وهم وهلوسة لدى معتنقي الأديان، وما ذلك إلا من نفث اوهامهم ونزغ شياطينهم وزيغ أنفسهم.
إن مشهد فرعون وهو يحشر وينادي أنه الرب الأعلى مشهد متكرر ولكن بطرق إخراج أخرى: يمكنك مشاهدة تسجيل لهتلر يستعرض جيشه ويخطب في آلاف الناس، أو ترجع إلى الاسكندر المقدوني وهو يرى نفسه بلغ الألوهية وصار ملك العالم كله وأمامه جيوشه الجرارة التي لا تُقهر، أو أباطرة روما الذين حكموا العالم القديم أو قسما منه قرونا طويلة، بل لكأنك تنظر اليوم إلى زهو وعجرفة الكوبوي الذي يحكم بلاد العم سام، والذي يمثل في اعتقادي اندماج فرعون بعاقر الناقة، وهو خطر على بلاده وشعبه وعلى العالم، كما سيأتي برهانه في قادم الأيام، ومن كانوا من أذياله الذين يسومون أمة محمد سوء العذاب ويهبونه مال وشرف الأمة، والذين يدمرون ليس فقط آثار بيت المقدس بل الانسانية كلها، وبهم تعلق وعد الآخرة وجاء بهم ربهم لفيفا كما وعد، لك أن تراهم كلهم في مشهدين لفرعون في القرآن نقلا عن مجريات حقيقية كانت واقعا يلمسه من عايشوه، تماما كما نلمس واقعنا الذي نعيش، وللمشهدين ناتج واحد حتمي ومصير واحد لا مرد له من الله، قد يختلف في الكيفية بين إطباق البحر أو فيلق ملائكي وطير أبابيل أو ريح صرصر أو طوفان أو صيحة أو رجس من السماء أو قادة ملائكيون يختفون في بيت نبي ويوقعون قومه في أكثر كاميرا خفية قوة وسخرية وعذابا، أيا كانت الطريقة فنتيجة واحدة لا مهرب لهؤلاء منها ولا مناص، كما لم يجد فرعون منها فكاكا:
” فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) (النازعات).
” وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) (القصص)”.

سوسة
23/08/2018 20:35