موسوعة البرهان، الجزء الأول (39): علم الأسس (18) الرحمة (5)

3 دقائق للقراءة

ويمكن من خلال هذا النظر في تقسيمات للرحمة من التسخيرية العامة إلى النورانية والإيمانية الخاصة وغير هذا كثير يضيق به المجال، ولكن ضمن سياق الرأفة والرحمة لرءوف رحيم علي أن أشير دون إفاضة لأني مؤجل الإفاضة لكتاب يلوح لخاطري وعقلي تدوينه عن سورة الفاتحة، والإشارة عن أول آيات الفاتحة وفاتحتها ومستهل كل سورة في كتاب الله – عدا براءة – وهي البسملة التي وإن غابت عن مستهل سورة التوبة لأنها سورة حرب نزلت في ظرف شديد بأوامر شديدة كما هو معلوم في شأن نزولها، فإن البسملة ظهرت في سورة النمل لتكوّن التوازن في بسملات القرآن بعدد السور إذ في النمل بسملتان أولاهما ما يُستهل به والثانية ضمن رسالة نبي الله سليمان عليه السلام إلى الملكة بلقيس وهي رسالة أرسلها مع الهدهد الذي جاء من سبأ بنبأ يقين فقرأتها على أهل مشورتها ووزرائها وقادة جيشها والملأ من حولها: “إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30)”
هذه البسملة لها سرها الذي سأفرده في كتاب خاص بعون الله عن فاتحة الكتاب، ولكن ما يمكن قوله باختصار في إطار الرحمة أنها تحتوي اسم الله مع باء للوسيلة والتوسل ثم الرحمن الرحيم، فالرحمة حاضرة في كل بسملة، في مستهل كل سورة القرآن إلا ما استثنى الله، وهذا بيان لما للرحمة من حرمة، وهي صلة بين الله وخلقه، صلة أكد الله قيمتها حين أمر بمراعاة صلة الرحم، لأنها من الرحمة، عهد إلهي بين الناس، فقال سبحانه في آية تحمل من علم الربط بين الناس ومن صلات البشر والعلائق بين الرحم والرحمة والتقوى وتطبيقها وربطها مباشرة بصلة الرحم دلالة على القيمة والمكانة وكونها إلزام على المرء ولزوم للمسلم والتزام للمؤمن الكثير والكثير: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)”
وللرحمن الرحيم في البسملة شأن وعلم ينفتح على باب شاسع واسع تدبرته كثيرا وفي روع القلم كلام وأفكار وإلهامات تنوء لها الأوراق، ولكني مختصرا أقول أن الرحمة الإلهية شاملة لكنها مع أهل التكليف بحسبان كما ذكرت، فهي لأهل الإيمان خاصة ، ضمن حسبان، أي ضمن نظام وتقدير وضوابط، فلئن كانت الرحمة الإلهية مطلقة، فان تطبيقها محسوب ومشروط، فالله سبحانه هو الرحمن بشكل مطلق كلي، وهو في نظري اسم ذات متعلق بالذات ورد في القرآن ثمانية وأربعين مرة بسياقات جمعته بالرحيم أو كان لتمييز عباد لله (عباد الرحمن) وغير ذلك وخصصت له سورة خاصة هي الرحمن: “الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)”
وهنا ما أسميه مقام الرحمانية، وهو مطلق شامل منضو تحته كل الخلق عائد على الذات الإلهية أساسا.
أما مقام الرحيمية، فرحمة نسبية بشروط وحدود وضوابط وترد متصلة بالرأفة لأن الرأفة تستوجب الرحمة وهي نظر في ضعف من تشمله النظرة الرحيمة.
واسمه تعالى “الرحيم” في اعتقادي اسم ذات متعلق بالخلق، فهو مقام لأهل التقى ولمن صبر واتقى ونظر وارتقى منضو تحته بعض الخلق عائد على العباد أساسا. وهذا باب ضمن علم الأسماء الحسنى ومعانيها ومقاماتها دونت منه فضلا من الله وأنا بين إيراده أو إفراده….
وهنا تكون الرحيمية صلة بين الله وخلقه فهو رحيم بعباده، لطيف بهم، وهنا تجلّ لاسمه اللطيف ولخفي لطائفه وجلي لطفه بالعباد حفظا ورزقا ومغفرة وهداية وتزكية وخيرا: ” اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)”
فهي صلة رحيمية لطيفة يدخلها الإنسان برحمة من الله، ليكون في كنف الرحمة، ومن وُصلت صلاتهم صاروا صالحين مباركين من الله سبحانه، فمن ذلك قوله سبحانه على لسان عبده سليمان في سورة النمل بعد سماعه لمقالة النملة ضمن منطق يحتاج تدبرا: ” فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وهذه الصلة الرحيمية فيها صلات أخرى، ومن أبواب صلات الرحمة الصلاة التي تصل العبد بربه وبرحمته ورأفته ومغفرته….ولي في “كتاب الصلاة” عودة إلى هذا الأمر.
ختاما، فإن الكلام في الرحمة الإلهية وأوجهها ومظاهرها ومعانيها ولطائفها وآثارها الظاهرة والباطنة يطول كثيرا ويعذب كثيرا..فسبحان الرحيم الرحمن، نسأله الرحمة بالعفو والرحمة بالسلطان، رحمة بالمدد ورحمة بالبرهان، رحمة بالنور ورحمة بالقرآن، تغسل الذنب وتمحو السوء ولا تؤاخذ الخِطْأ والنسيان، تُنزل النعم وتَرفع النقم وتشمل الدارين في آن……
” وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)”

مقالات ذات صلة

في شهود البيت العتيق
وأنت بجوار الكعبة المشرفة، تشهد المشهد العظيم، ترى بعينك الطائفين، وترى بقلبك الأولين، وتنظر بروحك إلى وجوه النبيين، من آدم الأول، بعد أن تاب...
3 دقائق للقراءة
عن الحق والباطل
كل فضيلة تقع بين رذيلتين.الكرم بين البخل والتبذير.والشجاعة بين الجبن والتهور.وكل حق يقع بين باطلين: باطل يحجبه، وباطل يسعى لتزييفه. هكذا حدثتني الروح، وهكذا...
< 1 دقيقة للقراءة
في مقام الوالدين
عظم الله قدر الأم، وأبان عن عظيم شرفها في كتابه، وأوصى الإنسان بوالديه ووصّاه ببرهما، فقال عز من قائل: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ﴾ [العنكبوت...
2 دقائق للقراءة
وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة