موسوعة البرهان، الجزء الأول (38): علم الأسس (17) الرحمة (4)

3 دقائق للقراءة

ولرحمة الله سبحانه آثار خفية يمكن استشعارهما وهو اللطف المتخلل، وآثار جلية يمكن معاينتها ومشاهدتها والإحساس بها، ويمكن لكل إنسان رؤية ذلك جليا واضحا في ذاته ومن حوله فتأمل قوله سبحانه: “فَانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)”
دعوة للنظر والفهم والتأمل والتدبر، في رحمة لها آثار في حياة الأرض وإحيائها بعد موتها وجفافها وهمودها، فذلك من شواهد الرحمة الظاهرة، ولها شواهد أكثر لا يمكن الحصر ولكن يمكن التيقن، فكأن كل ذلك بصمة تدل على وجود خالق رحيم لكل ما تراه العين ويشاهده الإنسان، ليكون بذلك دليلا على إمكان إحياء الميت من بني الإنسان ما دام الموت واحدا والإحياء واحدا، والمحيي المميت واحدا وهو قدير على كل شيء…
ولقد امتزجت الرحمة بالرأفة فكانت للعباد يسرا ونعمة ومجالا لكل خير من لدن رءوف لطيف رحيم: “فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)”
رأفة ورحمة مدّت للرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، فمنحه الله من جلال الاسم ومعناه وحقيقة سره فضلا بينه حين قال: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)”
فهي الرأفة والرحمة تتجلى في نبي الرحمة بأمر الرءوف الرحيم سبحانه، وهي رأفة ورحمة تجلت في ما أنزل الله الرحيم على عبد له بالمؤمنين رءوف رحيم، ليخرجهم من ظلمات الجاهلية والجهل والشرك إلى نور الرحمة والإيمان واليقين والعلم والحكمة: “هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)”
رأفة ورحمة يُسرت للمؤمنين ويسّر الله لهم بها فزكاهم ونجاهم من الشيطان ونزغه وفتنته، فانظر آيات من سورة النور تبين عظمة الرأفة والرحمة الربانية وتعطي تعاليما قيمة على حكمة وبصيرة وهدى من رءوف رحيم: “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)”
وفي السورة مواعظ ودروس رحمانية على المؤمن التفكر فيها والعمل بها وتطبيقها ليكون من أهل الرحمة.
وهي رحمة مودعة في أمة الإسلام والإيمان أنارت أرجاء الكون علما وخلقا وجسدها رجال لله علموا الناس معنى ان تكون الأمة وسطا فلا غلو ولا تفريط، فذلك من سر الرحمان المودع في صالحي أمة محمد ضمن تمش وبناء وموعظة وبيان تجده في هذه الآية وهي من أعظم الآيات القرآنية: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)”
وإن الشرح ليطول كثيرا والأطر تتعدد فهذه الآية تحمل علما ونورا وهديا وتبيانا…لكن ما يهم سياقنا أن ذلك من رأفة ورحمة الله مع حكمة عظيمة وحقيقة تؤلم من تدبر معناها في مثل هذا الزمان وتؤلم من تدبر المعنى مع علم بالتاريخ ومآسيه وما فعله أعداء الله ورسوله والدين والأمة بالدين وأهله وبالناس، فليس أوجع على القلب حين يرى كل ذلك من هذه الآية: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)”
فذلك دليل على أنها أمة رحمة، وكذلك ينبغي أن تكون، وذلك مما يسأل الإنسان ربه الرحمة به والرحمة فيه والرأفة بمن لم يجد قدرة على بلوغه جماعيا مع صدق الرغبة، وليس في الأمر في يقيني ما يبرر سجن الزمن تقهقرا وإيقاف التاريخ رجعيا ورفض الواقع بقسوة وجلافة، كما لا يمنع كل ذلك من وجود صفوة تجسد هذه الآية بشكل مستمر إلى آخر الزمان ومنتهاه رغم كل مآسي التاريخ وقصور التطبيقات وكثرة الظالمين والمتقاعسين والمجانبين للحق.
الرأفة والرحمة الربانية مع كل ما بيننا من خصوصيتها ونورانيتها وسرها، هي أبيضا عامة للناس – إلا من استثنى الله- مباشرة تسخيرية كونية وجودية، مشاهدة ملموسة يمكن لكل ذي لب تبينها وعليه حقها من شكر لله وعرفان وخضوع وعبادة: ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)”

مقالات ذات صلة

وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة
الوظيفة الصغرى
الحمد لله وصلى الله على الهادي رسول الله.وبعد فهذه الوظيفة الصغرى للطريقة الخضرية، ضمن ما فتح الله به على عبده. والنفع مجرب والفائدة أكيدة،...
2 دقائق للقراءة
يريد أن ينقض
ذلك الجدار الدي طال به العهد، وانتقل أصحابه عن الدنيا، سئم المقام حيث لا أنيس، ولا ضحكة طفل أو سجود شيخ، فأراد أن ينقض،...
2 دقائق للقراءة
عن والدي النبي وكافله
ورقة من الموسوعة التاريخية، وهذا نموذج لما في معظم الكتب السنية تاريخا وسيرة، حين يتم ذكر ام النبي او ابوه يسمون الاسم، وحين يذكرون...
2 دقائق للقراءة