مستويات المنطوق اللغوي (من كتاب المدد الواصل في علم التواصل)

7 دقائق للقراءة

*ملاحظة: هذا المبحث مزيج بين التطويرات والابتكارات المفهومية الخاصة بصاحب الدراسة.
*وقعت إضافة ترجمات تقريبية أو صحيحة للمصطلحات التي استعملتها من طرف الأستاذ عامر الجريدي.
أستاذية في اللغة الإنقليزية من كلية 9 أفريل (1980)، شهادة الكفاء في البحث (لسانيات، كلية الآداب بالقيروان 1991)، شهادة الدراسات المعمقة لسانيات تطبيقية (بالإنقليزية)-المعهد الأعلى للغات بتونس 1998.
مدرس الترجمة (إنقليزية-فرنسية-أنقليزية) وإستراتيجيات الاتصال-علاقات عامة وصوتيات بهذا الأخير.

مدخل: علم اللغة علم إنساني بامتياز، فاللغة سرّ التواصل الإنساني وعلم الكتابة سرّ الترقي العلمي المعتمد على اللغة، والبشر لديهم لغات كثيرة عبرت عنهم وميزتهم ثقافيا وحضاريا، واللغة تتجاوز الفظ لمستويات كثيرة من التعبير فـالموسيقى مثلا لغة كونية، والرياضيات كذلك نوع من اللغة العلمية، ولكن اللغة اللفظية تشكل جوهر اللغة، ومن أسس اللغة اللفظية “المنطوق اللغوي (énoncé / acte de parole / speech act / utterance).
أعني بمصطلح “المنطوق اللغوي” (énoncé / utterance) الألفاظ التي ننطقها وتكون ما نلفظه ونعبر به من معان ومدلولات، وكيفيات نطقنا لها، ومعلوم أن النطق خاضع للحروف ولمخارجها، وكذلك للكلمات وإيقاعها الحرفي والصوتي، والمنطوق اللغوي في اللغة العربية يتميز عن كل اللغات بثراء كبير جدا من حيث التمشي اللهجي أي تطور اللهجات وتنوعها، ومن حيث التدرج الدلالي والمستويات اللفظية، فهنالك عربية سلسة (fluent Arabic)، وهنالك حوشي الكلام (langage ésotérique / esoteric language) أي ما كان صعبا مبهما.
إن الوعي بمستويات المنطوق اللغوي (Niveaux de langue / Registers of language)، ثم القدرة على التعامل معه، أمر ضروري لمن كان ضمن مجالات المنطوق، شاعرا، مذيعا، خطيبا، محاضرا، وغير ذلك، ولا يتم الأمر دون مشقة ودربة، بل يحتاج لدرابة ومطالعة حتى يستقيم اللسان ويتمكن من التعامل مع كل مستويات المنطوق اللغوي. ومن المفيد الإشارة إلى وجود مثل هذا الجهد في تلاوة القرآن وتجويده وعلوم ذلك مثل مواضع الغنة والإدغام والمدّ وكذلك التعامل مع الحروف ومخارجها ثم كيفيات الأداء النطقي واللفظي للغة القرآنية وهي أرقى مستويات المنطوق.
وهذا لمح عن مستويات المنطوق اللغوي وفق رؤيتي.

1-المستوى الأول: المستوى اللهجي (dialectes / dialects): وأعني به اللهجات المحلية التي تميز الوطن العربي وكذلك بقية دول العالم فلكلّ لغة لهجاتها، وهذا المستوى ينقسم إلى مستويات فرعية أقسمها في الآتي:

v المستوى الأول: اللهجة المخصوصة (idiolect):أعني بها طريقة نطق شخص معين للكلمات وطريقة تلفظه لها ومميزات ذلك من تباطؤ أو تسارع أو تكرار كلمة معينة أو طريقة مميزة في نطق حرف أو العجز عن نطقه كحرف الراء مثلا أو نطقه بحرف سواء كالسين تحول ثاء وغير ذلك، مع النبرة الصوتية وما فيها من مميزات، بحيث يمكن أن نعرف هوية الشخص بسماع منطوقه ولو مع عدم رؤيته إن كنا نعرفه مسبقا ودونا في ذاكرتنا ذلك، إذ المنطوق اللغوي مدون في الذاكرة.
v المستوى الثاني: اللهجة الخاصة (local variety): اللهجة الخاصة هي اللهجة المحلية لمنطقة معينة، مثل لهجة جربة أو سوسة أو دوز، حلب أو دمشق، الصعيد أو القاهرة، وهي لهجة محلية فيها نبرة خاصة وتمشيات للمنطوق وخصائص تتفق مع اللهجة القطرية، ولكن تختلف عنها في تراكيب وحروف يعرفها كل من يستخدمها ويتميز بها بحيث يمكن معرفة منطقة الشخص من خلال الاستماع لمنطوقه.

v المستوى الثالث: اللهجة القُطْرية (national dialect): هي مميزات لهجة قـُطـْر بعينه، مثل اللهجة المصرية أو المغربية أو التونسية، وفيها خصائص في نطق الحروف وكذلك خاصيات في النبرة والأسلوب، مما يطول شرحه، وقد خصصت له جانبا ضمن مبحثي في علم الحروف وطاقتها وما أطلقت عليه اسم “علم الاجتماع اللفظي”….

v فـاللهجة القـُطْرية تمكننا من معرفة بلد الشخص عبر الاستماع لمنطوقة اللغوي، ولابد من الوعي أن كل لهجة خاصة أو قطرية لديها فنها وأغانيها وشعرها ومرتبطة بثقافة وبمنظومة اجتماعية وحضارية كاملة.

v المستوى الرابع: اللهجة الثالثة (informal register): هي اللهجة التي تكون مفهومة وممكنة لكل أهل القطر، وهي بين الفصيح (formal language /) والعامي (colloquial language / register)، أي فصيحة عامية، ويستخدمها المثقفون مثلا وكذلك في التلفزيون والإذاعة.

v وضمن اللهجة الثالثة تندرج اللهجة البيضاء التي يفهمها كل العرب على حد سواء وهي بين الشرقي والفصيح.

v المستوى الخامس: اللهجة الهجينة (pidgin): هي مزيج بين لغة أم ولغة تعود للمستعمر أساسا، كJالجزائرية فيها مزيج بين العربي والفرنسي، والتونسية كذلك، أو المصرية فيها مزيج بين المصري والإنجليزي، لتأثر حضاري يصل لدى البعض حد الاستلاب، ولطغيان لهجة على أخرى فالجزائرية تطغى عليها الفرنسية، وقد ترمز لدى بعضهم للرقي فنطق كلمة فرنسية او أكثر يرمز في ذهن من يقوم بذلك إلى أنه متحضر أو للفت الانتباه أو إثبات التثقف وغير ذلك، وقد يصل الأمر حد الانسحاق الثقافي إذا طغت اللغة الأجنبية على اللغة الأصل، وهذا حين يصل أطر الإعلام فإنه يكون خطيرا جدا لخطورة المنطوق اللغوي في تكوين شخصية الإنسان.. ونشر مثل هذا الأمر وتفشيه دليل اجتماع نفسي أيضا يخضع لعلم الاجتماع اللفظي وهو من بين ابتكاراتي العلمية.

v المستوى السادس: اللهجة المبتذلة (slang): هي تمثل مخزونا من الكلام البذيء والمبتذل، والتي لا ينبغي النطق بها لمن لديه مستوى راق، فهي المستوى الأدنى من المنطوق اللغوي، ونجدها في الفصحى ضمن الفحش والكلام القبيح والمبتذل، والذي تطور ضمن اللهجات وأضيفت إليه مصطلحات أخرى، وفيها أساليب يستخدمها البعض لبيان النوع فـ’البلطجي’ لديه منطوق ولهجة مخصصة يتكلم من كان مثله ويحاول من خلالها إخافة الأخر فيبين بها نوعه وأنه بلطجي وخطير، وقد يكون الأمر لمجرد التظاهر فيكثر من البذاءة والشتائم ليعبر عن قوته أو غضبه ويرتبط ذلك بتصرفات مبتذلة من شرب خمر وحركات سيئة وكل ذلك تعبير عن نفس مريضة وذات بغيضة.

خلاصة أولى: المنطوق اللغوي بطاقة تعريف لغوية تعبر عن الشخص وعن منطقته وبلده وعن حقيقة ذاته وسلامة نفسه أو مرضها وحسن خلقه أو عدمه، وهنا خطورة المنطوق اللغوي التي بين القرآن الكريم جانبا منها ومن أثرها في قوله تعالى: ” وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)” الإسراء

إذ أن المنطوق السلبي يؤدي إلى فعل ورد فعل سلبي، والإيجابي يؤدي إلى الإيجابية الفعلية، فكم حربا قامت لأجل كلمة سوء، وكم مصيبة حدثت، وكم أمرا حسنا قام لأجل كلمة حسنة، بل العلاج الإيحائي كله يقوم على الكلام الهادئ الجيد، فالعناية بالمنطوق اللغوي أمر مهم جدا وعلى غاية الخطورة وإفساده أمر خطير ونحن نرى أساليب لذلك عبر الغناء المنحط ونماذج في السينما والأغاني والإعلام…..

وكلما ترقى الإنسان منطوقه اللغوي كلما كان أحسن حالا وأقرب إلى صحة نفسية وسلامة عقلية، فالمجنون منطوقه اللغوي منخرم، وبذلك كلما كان المنطوق اللغوي أرقى كان الحال أحسن، فالملاحظ أن المنطوق اللغوي لشخص ما ساعة الغضب قد ينزل إلى المستوى الأدنى لا شعوريا مما يشكل الحرج والندم بعد ذلك والجرح للآخر، فلابد من تطوير نظم السيطرة على مستوى المنطوق اللغوي.

1-المستوى الثاني: المستوى الرسمي (official register): أعني بالمستوى الرسمي اللغة الرسمية لأمة أو حضارة أو دولة ما، فالإنجليزية فيها اللهجي وفيها الرسمي، والعربية كذلك، فـاللغة العربية الفصحى هي اللغة الرسمية للأمة العربية، ورغم أن هذه اللغة الفصحى فيها لهجات داخلية كثيرة كانت تنطق بها القبائل ولها مميزات مثل الكشكشة أي نطق الكاف شينا في الخطاب أو إبدال كاف المؤنث شينا كقوله أمش مكان أمك أو هلا بش مكان هلا بك، وكانت عند بني سعد وهو ما استمر لهجيا في بعض مناطق العراق ولدى الشواية في الشام وفي صعدة شمال اليمن وفي أجزاء من الجزيرة العربية مثل قبيلة العجمان، والعنعنة وهي إبدال الهمزة عينا فيقول عن عوض أن وكانت لدى تميم فيقال كشكشة بني سعد وعنعنة تميم وغير ذلك. رغم كل هذا فإن اللغة الرسمية للأمة العربية والتي بها دونت كتبتهم وأشعارهم هي لسان قريش ولغة القرآن الكريم، فهي الفصحى الرسمية رغم أن باقي ما ذكرنا من لهجات ضمن الفصحى فصيح أيضا.
وهذا المستوى من اللغة الرسمية ينقسم بدوره إلى مستويات فرعية أراها وفق الآتي:

المستوى الأول: اللغة السلسة (simplified language): وهي لغة سهلة ميسرة سلسة يسهل نطقها وتكون كلماتها بسيطة غير معقدة الحروف والمخارج، ونجدها في قصة للأطفال مثلا، وهي ضرورية في التعليم والتلقين وخاصة للطفل.
المستوى الثاني: اللغة الشاعرية (poetic): هي لغة يحكمها البديع ويغلب عليها الخيال ضمن التشابيه والاستعارات، فيها جناسات ومحسنات لفظية وبيان جميل، تطغى عليها الجمالية، وهي لغة تحتاج تمكنا وموهبة ومقدرة، ولها أهلها الذين برعوا فيها، وهي سلسة منسابة ولكن لها مستوى عال من التخييل والتصوير، وتصلح للنثر وللشعر، ونجد نمادج مثل جبران والشابي…..

المستوى الثالث: اللغة المعجمية (formal / soutenu): هي لغة تحتاج لمعجم لفهمها، لأنه تستخدم مخزونا لغويا كبيرا واللغة العربية تتميز بثراء مخزونها، وهي لغة خاصة بأهل الفقه مثلا فنحتاج معجما فقهيا، أو حين نقرأ قصيدا للمتنبي والبحتري والفرزدق، فنحن نحتاج للمعجم لنفهم بعض الألفاظ، فهي لغة ثرية عميقة وصعبة أيضا وقد لا تكون سلسة إذ تحمل تحديا لقارئها وسامعها ويظهر من خلالها قائلها مدى تمكنه اللغوي ومعرفته بلغة الضاد.
المستوى الرابع: اللغة الحوشية (esoteric): هو المستوى الأصعب من اللغة، فحوشي الكلام غريبه لفظا ومعنى، فهو ما استغلق على السامع وهو الوحشي الذي لا يسهل معناه، وقد يلجأ إليه البعض ادعاء البلاغة فيسقط في العي، وهو ضد الفصاحة لأن الإفصاح الإبانة، ولكنه مستوى موجود وكان فطاحلة الشعر في الجاهلية يستخدمون منه عن تمكن ودراية وليس ادعاء، ولكن دون إكثار، ولربما بدا بعض ما يقولونه حوشيا لدى من جاء بعد تباعد الزمن وتبدل اللسان، ويكون عند قائله فصيحا، فأنت مثلا حين تقرأ لامية العرب للشنفرى تجده يقول:
وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون : سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأََلُ
فيبدو لك الكلام حوشيا غريبا، وهو لدى قائله فصيح، والمعنى كما هو في الشروح
“دونكم: غيركم. الأهلون : جمع أهل. السِّيد: الذئب. العملَّس: القويّ السَّريع. الأرقط: الذي فيه سواد وبياض. زُهلول: خفيف. العرفاء: الضبع الطويلة العُرف. جَيْئَل: من أسماء الضبع. والمعنى أن الشاعر اختار مجتمعاً غير مجتمع أهله ، كلّه من الوحوش ، وهذا هو اختيار الصعاليك. ”
المستوى الخامس: اللغة القرآنية: اللغة القرآنية لغة خاصة مميزة، وضمنها البيان المحمدي، والحكمة المقتبسة منها، وهي أفضل وأعلى المستويات اللغوية، ومن رام الترقي في المنطوق اللفظي فعليه بلغة القرآن، فهي تقوم المنطوق وتصلح الخلل النطقي ولها أثر بياني ولغوي كبير، وقد أفاض علماء الأمة من قبل في هذا، بحيث يمكن للباحث ان يجد عن الموضوع كلاما مفيدا كثيرا.
خلاصة ثانية: كي يستقيم المنطوق اللغوي اللهجي، لابد من إتقان المنطوق اللغوي الرسمي، فيسهل اللفظ نطقا، ويتيسر التعبير، ويقوم اللسان، ويظهر البيان، ويصبح الكلام سلسا عذبا، ويشحذ الذهن وينفتح الخيال.

ملاحظة: المنطوق اللغوي لدى الطفل يشكل فرعا منفصلا وهو متداخل مع اللهجي اكتسابا والرسمي تلقينا والعناية به ضرورية.
خاتمة: هذا المبحث مدخل لبحوث أخرى في علم اللغة وعلم المنطوق اللغوي، وسيكون من المفيد دراسة كل مستوى على حدة والبحث فيه ومحاولة فهمه، إلا المستوى المبتذل في المستوى اللهجي فلا فائدة منه وقد ذكرناه تقسيميا فقط.
كما من المهم تتبع النصوص الخاصة بكل مستوى ضمن المستوى الرسمي، والمقدرة على التمييز بين كل مستوى وآخر.

تم إنجاز هذه الدراسة بتاريخ 23-7-2011