التصوف مدرسة الأخلاق الكاملة

7 دقائق للقراءة

(بحث شاركت به في الملتقى العالمي للتصوف العرفاني بالعراق)

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، الغر الميامين.

ورضي الله عن أصحابه الخلَّص المخلِصين، وسلام على اهل ألله أجمعين.

وبعد، فإن التصوف الذي اشتُقّ لفظه من الصفاء، حتى قال في شأنه أبو الفتح البستي:

تنازَعَ النّاسُ في الصُّوفيِّ واختلَفوا

قِدْماً وظَنُّوهُ مُشتَقاً مِنَ الصُّوفِ

ولستُ أمنحُ هذا الاسمَ غيرَ فتىً

صافي فصوفِيَ حتَّى لُقَّبَ الصُّوفي

إن هذا التصوُّف السَّني مجمع لبحري الشريعة والحقيقة، وفي ذلك يقول الإمام الرفاعي: “الطريقة الشريعة، والشريعة الطريقة، والفرق بينهما لفظي، والمادة والمعنى والنتيجة واحدة”.

وذلك على أساس الكتاب والسنة، حتى قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: “كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة. طِر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم”.

وقال شيخ الطائفة الجنيد البغدادي: ” مذهبنا مقيد بأصول الكتاب والسنة”.

وقال العارف الكبير سهل بن عبد الله التستري “أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق”.

 

والتصوف تشوّف إلى المعاني والمعالي، بتزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق، والترقي والتلقي، حتى قلنا من قبل “التصوف حسن الخلق”، بما يحمل حسن الخلق من معاني ومباني، ومجالي جمال، وسير نحو الكمال.

وإن القول بأن التصوف مدرسة للأخلاق الكاملة، ليس كلاما مزخرفا ليس له مصاديق، ولم تقم عليه براهين وشواهد، بل إن السادة الأوائل، والثلة الأكابر، من رجال هذه المدرسة العرفانية الإيمانية، التي يروم المترقي فيها بلوغ أبواب التلقي، ويسير السالك بها من سفح الإيمان إلى قمة جبل الإحسان، قد بينوا في وصفهم للتصوف ما يعكس فهمهم له، ونظرتهم لوظيفته وحقيقته وجوهره.

فها هو الفقيه والصوفي رؤيم بن احمد وهو من رجال القرن الرابع يقول: “التصوف هو الوقوف مع كل مع كل شيء حسن”.

وفي هذا من المعاني الجمالية والأخلاقية ما يفيض فيضا في قلوب العارفين.

وقال أحد أعلام التصوف في القرن الرابع أيضا، مُحَمَّد بن عَليّ بن جَعْفَر الكتاني: “التصوف خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، زاد عليك في التصوف”.

أما شيخ الطائفة الإمام أبو القاسم الجنيد فيقول: “التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني”.

ونسب القول أيضا لصاحب الجنيد، أبي محمد الجريري، بلفظه: “الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دنيّ”.

وقال الفقيه والقاضي والمحدث الشيخ زكريا الأنصاري في هوامشه على الرسالة القشيرية: “التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية”.

 

 

هكذا كان تصوف الأوائل والأكابر، تصوف العارفين والأقطاب، رجال الصلاح والإصلاح، الذين كان شعارهم: )إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ  [1](.

وقد قام أولئك السادة على امتداد تاريخ الأمة بدور ريادي في إصلاح الأخلاق، وتربية المريدين على حسن الخلق، واشتغلوا على القلوب والسرائر، والبواطن والضمائر، تنقية وترقية، وتهذيبا وتزكية.

وفي ذلك يقول محتسب العلماء والأولياء العارف بالله الشيخ أحمد زروق الفاسي في كتابه المهم “قواعد التصوف” الذي لا يستغني عنه كل سالك لطريق القوم: “التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه.”

وهذا العمل ينطوي على مشقة كبير، لأن جهاد النفس أمر عسير، وتنقية القلب من الشوائب حتى تصفو مرآته ليس بالأمر اليسير.

ويحدثنا التاريخ عن مجاهدات الرجل الصالح عدي بن مسافر، والذي عاصر الشيخ عبد القادر والإمام الرفاعي، وكيف أسفرت هذه المجاهدات عن صلاح أثمر إصلاحا، وأثر تأثيرا عظيما.

 

لقد بلغ أقطاب التصوف السُّنّي السَّني مراتب عالية في الأخلاق، تزكية لذواتهم، ولغيرهم مما اتصل بهم، بل واستمر سرهم ساريا في القلوب والنفوس حتى بعد أن انتقلوا من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وكان لمريديهم فيهم أسوة حسنة، كما كانت لهم الأسوة الحسنة بسيد الخلق عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو الذي كان قرآنا يمشي، وقال عن نفسه: أدبني ربي فأحسن تأديبي، وقال عن شريف مهمته: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ووصفه ربه مادحا مبينا ذلك القدر الكريم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ﴾[2].

 

وحين يقصد القاصد أو يرصد الراصد عمل الشيخ عبد القادر الجيلاني في زاويته، ومدرسته العامرة ببغداد، أو يمضي إلى الإمام الرفاعي والمدرسة البطائحية، أو يسعى إلى الشيخ رسلان في دمشق الشام ومدرسته الكبيرة، أو ينتقل إلى المغرب الكبير وإلى أبي مدين سعيد الغوث ومدرسته الفقهية والصوفية والعسكرية في بجاية من أرض الجزائر، وإلى أولئك الثلة الكرام في القرن السابع للهجرة، سيجد خلايا النحل التي تكد وتعمل، عبادة وتزكية، صياما وقياما، تهذيبا وتدريبا، فكان من ثمر ذلك جيل حرر القدس، بعد حال الوهن المستشري، والفساد الطاغي، وخراب الأخلاق الممنهج.

 

وعندما نمضي إلى أرض تونس، إلى جبل مبارك فيها اسمه جبل الراهب، الذي أرسل إليه الولي الكبير عبد السلام بن مشيش تلميذه الوحيد أبا الحسن الشاذلي، فسنجد الأربعين وليا، الثابتين في الحصار أربعين يوما، طعامهم خبز وزيتون وماء، وفي تلك المنارة الرحمانية أشعت الأخلاق المحمدية، وتجلى خلق الربانيين، وظهر سمت الصالحين، وغلب برهان الصادقين.

إن تاريخ التصوف عابق بكل ما يثبت أنه مدرسة للأخلاق الكاملة الرفيعة، وذلك منهاج ومعراج، ووسام وتاج، وماء ثجاج، وشفاء وعلاج، وفضيلة تُحتاج، لكل من سلك دنيا المتاهات والفجاج.

 

ما يكون من أثر ذلك ليس بالأمر الهين، فهو رخاء وأمان للناس، وطيب للأنفاس، وهدي نبراس، وتنقية حواس، وإخلاص لرب الناس، وغلبة لنزع الوسواس الخناس.

لقد أصلح القوم في مجتمعاتهم، نشروا الفضائل كلاما ومقاما وحالا، وكانوا درع يحمي الشباب من الآفات، ويحمي الأمة من المهلكات، ويدحض الشبهات، ويرد على كل فاسد عقيدة، وصاحب دعوى للباطل، وكانوا مناصرين للحق بالحق، لا يغادرونه ولا يغادرهم.

وإن ما تعاني منه مجتمعاتنا اليوم، من نشر الرذيلة، وطمس الفضيلة، والدخول على شباب الأمة بألف حيلة ووسيلة، ليشذ فيما يلذ، وينسلخ فيما يحسبه حرية، ويُلحد فيما يظنه علما،  مع رمي الشبهات على أهل التصوف، وتسميمه بالدخلاء عليه، والمتاجرين به، وتلويثه بالجهلة أدعياء الروحانية، والمعارف الباطنية، دون كتاب ولا سنة، ومحاربته بأهل التكفير والتفجير، والتفخيخ والتدمير، كل ذلك يدعو أهل التصوف الصادقين، وأهل العرفان المحسنين، وأهل الله ورجال الوقت في زماننا، إلى وقفة تجمع الصف، وتصل القلب بالقلب وتشد الكف بالكف، حتى نصلح كما أصلح السابقون، ونهدي كما هدى الأولون، على منهاج سيد المرسلين، وإمام الأولين والآخرين، وعلى ما كان عليه أسيادنا آل بيت النبي، الأئمة الهداة، الذين قال صادقهم  عليه السلام: ذكروا الناس بأخلاقنا، فإنهم إذ عرفوا أخلاقنا أحبونا.

وكان لجده زين العابدين رسالة عظيمة في الأخلاق والحقوق، فيها أخلاق أهل بيت النبوة.

وكان الإمام السبط الحسن بن علي عليهما السلام يقول: ” عجبت لمن يتفكر في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه “.

وقال أيضا في وصاياه العظيمة: يا ابن آدم: عف عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً، إن كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

يا ابن آدم: إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزود، والكافر يتمتع.

وأحسن بقوله أبيه الإمام علي عليه السلام: “ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلا تكلفوا إنارة المصابيح، ليبصروا ما يدخلون بطونهم، ولا يهتمون بغذاء النفس، بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب، في اعتقاداتهم وأعمالهم”.

وهذا الهدي النبوي، وهذه الأنوار من مشكاة النبوة التي أضاءة من صدور أعمدة آل البيت والأئمة الكرام، إنما هي روح التصوف، الذي نبع من ذلك المعين، من معين الكُمّل أصحاب النفوس الكاملة والأخلاق الكاملة، ليكون بحق مدرسة الأخلاق الكاملة، وليصدق فيه قول

أما القطب الشهير صاحب الطريقة الشاذلية الشيخ أبو الحسن الشاذلي: “التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية”.

وكذلك قول الشيخ العارف أحمد ابن عجيبة الحسني في كتابه “معراج التشوف إلى حقائق التصوف”: “التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة”.

 

إن هذا المؤتمر الذي نحن فيه اليوم ببغداد الأقطاب والسادة الأوائل ورجال التصوف الصادقين، وفي حضرة رجال الرباط المحمدي الذين سطع نور سرهم الموروث كابرا عن كابر عن الأولياء والصالحين وآل بيت النبي الطاهرين وعن سيد المرسلين، إنما نرى معالم طريق تتضح، لتصوف جامع للفضائل، مصلح للمجتمع، تجدد من خلاله مدرسة الأخلاق الكاملة، بالشريعة والحقيقة والحق، أو كما قال أبو يزيد البسطامي لما سُئل عن التصوف، فقال بلسان الشريعة أم بلسان الحقيقة أم بلسان الحق؟ فقال القائل: ما معنى الألسنة الثلاثة.

فقال: أما بلسان الشريعة فتصفية القلب من الكدورة، واستعمال الخلُق مع الخليقة، واتباع الرسول في جميع الشريعة.

وأما بلسان الحقيقة، فعدم الجنايات، والعتق من رقّ الشهوات، والخروج عن عين الشبهات، ومحو أحكام الصفات، وترك جميع المألوفات، والاكتفاء بخالق السماوات.

وأما بلسان الحق: فإن الحق اصطفى الصوفية بصفاته عن صفاتهم فصافاهم فسمّوا صوفية”.

والله ولي التوفيق، وهو المؤيد للعبد فيما نوى من خير، وفيما أزمع عليه من إصلاح لنفسه، ولمن كان به موصولا.

والموصول بالموصول، موصول.

 

 

سوسة 30/01/2023

 

[1]  سورة هود الآية 88

[2]  سورة القلم الآية 4

منشورات ذات صلة

عائشة الباعونية عميدة المديح النبوي
عرف التاريخ الإسلامي شخصيات هامة في الفقه والعلم والأدب والتصوف، وشعراء مبدعين مجيدين ومجددين. وكان لبعض الصالحات من النساء ظهور وسطوع شأن السيدة سكينة...
4 دقائق للقراءة
التشويهات الكبرى للتصوف: نظرة سريعة وقول مختصر
مثّل التصوف طيلة تاريخه منارة للعلم والتزكية ونشر الدين الحق والاسلام السمح عبر العالم، حيث تمكن رجاله من إيصال كلمة التوحيد إلى دول بعيدة...
5 دقائق للقراءة
التصوف…ذلك النهر السرمدي (من دراسة بعنوان: التصوف الفلسفي لدى الإمام الغزالي من خلال كتاب مشكاة الأنوار)
يعتبر التصوف مصطلحا ناشئا في القرن الثاني، وانتشر أكثر في القرن الثالث، وترسخت طرقه الكبرى في القرن السادس للهجرة، ولكنه أصيل كمعنى في الإسلام...
7 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (7) : الفصل الثالث: التمشيات: التمشي الفكري
ضمن التمشي الفكري يعمد العقل المدبّر إلى تسميم فكر العقل المدمر، بتركيز صور أليمة تبيّن تعرض الفئة التي يدعي نصرها للظلم والألم والموت، أو...
< 1 دقيقة للقراءة
لمحة تاريخية عن التصوف بتونس
*نشرت في كتاب: “التصوف معراج الذوق وترياق التطرف”، وفي كتاب “التصوف في المغرب العربي وأفريقيا”. وكذلك في موقع ابن عربي للدراسات العرفانية والصوفية. *في...
6 دقائق للقراءة
في معنى التصوف وحقيقة الصوفي
*نشرت في كتاب التصوف في المغرب العربي وأفريقيا إن البحث في معنى التصوف وحقيقة الصوفي أمر مهم من حيث الصيغة المعرفية وكذلك من حيث...
6 دقائق للقراءة
كتاب التصوف في المغرب العربي وأفريقيا إطاره وغايته
الحمد لله الذي هدى وزكّى، والصلاة والسلام على إمام كل من تزكّى، قمر المدينة وشمس مكّة، والسر الموصول بين العرش والقبة الخضراء والبيت المعمور...
2 دقائق للقراءة
الطرق الصوفية في تونس و دورها المحتمل في التصدي للفكر التكفيري و الارهاب – ج 2
أعدت هذه الدراسة لجريدة العرب الدولية.   2/ لمحة تاريخية عن التصوف بتونس: لا ينفصل تاريخ التصوف بتونس عن الحركة الصوفية في المشرق وبواكير...
6 دقائق للقراءة
الطرق الصوفية في تونس و دورها المحتمل في التصدي للفكر التكفيري و الارهاب – ج 1
أعدت هذه الدراسة لجريدة العرب الدولية. مدخل: يقول عبد الواحد بن عاشر في متنه الشهير: “في عقد الأشعري وفقه مالك، وفي طريقة الجنيد السالك”....
11 دقائق للقراءة