مرحبا يا عيد ميلادي..

3 دقائق للقراءة

مرحبا يا عيد ميلادي..
لقد نسيتك هذا العام!
تتلاحق الأحداث وتتسارع الأمكنة وألتقي الكثيرين كأني في سباق مع الزمن.
وإن لم أكن هنا او هناك في أصقاع الأرض، سأكون هنا أو هناك في أصقاع المعرفة والبحث والكتابة.
أليست حياة مرهقة!
لكنها ما أردت: أسفار في العالم وأسفار في العلم…أسفار أقرؤها وأخرى أكتبها.
اليوم، يا صديقي، عيد الميلاد المحترم، تجاوزنا معا عتبة الأربعين بعام واحد، لكنني أبدو أحيانا قد تجاوزت الخمسين، وأحيانا أخرى أبدو دون ذلك..
هل هو تلون الحال أم هي تشكلات الروح.

تعلم يا عيد أنني لم أهتم بك لسنوات، ولم أكترث لك، ولم يكترث إلا قلة. واليوم يهنئني بك الكثيرون كأنك انتصاري الذي صنعه القدر.

كان مولدي ليلة جمعة باردة في ريف هادئ.
لكنه كان في ترقيم أيام آخر.
إلا أن الأقدار شاءت أن تكون أنت صاحب المزايا ومحط الهدايا أيها السادس والعشرون من الشهر الأول المبجل.

في قلبي مساحات كبيرة من الحزن، بعضه من قوارير شربتها من قبل، وأخرى من اوجاع التاريخ ومآسي العالم.
لكن في القلب أيضا أكوان من السعادة بالله أولا وأخيرا، وبكل خير وفضل وهبه لعبده في تجليات ملك إذا أعطى أدهش ولم يبالي بما صنع العبد.
فأنا بذلك مقرّ ولذلك شاكر دائب الحمد لمولى الفضل عظيم العطيّة.

ويوم ولدت كان مخاضا عسيرا تعيشه الأم، فليكن كل يوم سعادة وعيدا لأمي ولكل أم.

يوم ولدت حمل الأمانة أبي، ولم أفهم أنه وُلِد معي أيضا حتى وُلد لي ولدي، فعلمت أن الآباء يولدون مع أبنائهم ويكبرون معهم، وفهمت كيف نظر إلي أول مرة مولودا قادما من نطفة الغيب بمهمة وقدر، وكيف حملني على كتف الصبر حتى صرت رجلا.
فلترع عين السماء أبي بأمر بارئها.

كان للرؤيا أنباؤها قبل مولدي فحققت من ذلك ما كان، وأستمر بعون من قال للكائن كن فكان.

وكان القلب فقيرا للحب مكسورا كجناح طائر في عاصفة، فأهدتني الأيام نهرا من الحب تدفق في أعماق الذات وانهمر في جدب الروح وجفاف العاطفة، فأينعت أرض العمر، واهتزت وربت وأنبتت قمرين هما كل الدنيا.
فليحفظ الله لي ما وهبني.

وكان الطريق وعرا، طويلا، شاقا، لا يقطعه السالك إلا بأجنحة الرفاق وخيل الوفاق.
فكان لي على طول الطريق أصدقاء أخلصوا، ورفاق ساعدوا، وأحبة فرشوا قلوبهم على جمر المحنة حتى نجتاز إلى ثمر المنحة، وصيروا اللوعة روعة.
فشكرا لكل أصدقاء العمر ورفاق الطريق.

كان لي في متاهات الأيام أعداء، لعل بعضهم محق في كرهي لأن شخصا من شخوص عمري سبب له أذية، لم أقصدها، فأنا ما تعمدت الأذى يوما. لكن معظمهم ذئاب حسد وضباع تآمر ودوامات من رمل البغض والنميمة، وفقاعات من الإفك والشتيمة.
لكني أشكرهم جميعا.
لقد علمتني كراهيتهم قيمة الحب الذي في قلبي، وأرشدني بغضهم إلى مكانة أحبتي.
ودلتني خناجرهم على عظمة الصبر، ومكاني بين العظماء، الذين علمهم الله، فيما علّم، كيف يُعجن العشق من طين الكراهية، وكيف يصنع العسل من علقم البغضاء، وكيف يرون “الزهرة من خلال الشوكة”، كما أخبر مولانا وشيخه ذات إشراق قلب.

أجل: أخذني الحب الطفولي إلى الشعر وعشق الكلمات. وأخذني دم حيدرة إلى فنون الدفاع وعشق السيوف.
وأخذتني الدراسة والمطالعات الكثيرة إلى فنون الأدب وعوالم الفلسفة.
وأرشدتني الفلسفة إلى التاريخ وقادني التاريخ إلى المدينة وكربلاء و”فخ” لأعرف جذوري.
وهيأتني الروح لطريق أهل الله، فعرفتهم واحدا واحدا، وامتزجت خمورهم في دمي، فأشرقت شموس المعاني.
وكان لي في مجمع البحرين موعد، تسنَّهَ فيه الزمن كطعام العزير، وتجدد فيه القلب كشباب أيوب. واخضرت فيه الروح، ففاضت العلوم ونبعت المعارف.
ولأجل ذلك، سأبتسم فقط، لكل هؤلاء الذين يراهم القلب.

وبعد، يا فخامة عيد الميلاد، انا لا أحب الحفلات، وأكره الصخب.
فلنحتفل بصمت.
إن “العبارة ستر”(١).
ولنسر نحو سعة الرؤية.
” وإذا اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة”(١).
كل عام وأنا بخير، ما دمت – يا رب – راضيا.
*
(١): النفري: المواقف والمخاطبات.