شعب يحتاج إلى الفرح

3 دقائق للقراءة

 

مشاهد الاحتفال بفوز قيس سعيد في شوارع تونس مشاهد رائعة للديموقراطية، ومشاهد جميلة لفرح شعبي غامر.

وللأمر معان كثيرة، أولها وأهمها مقدار حاجة هذا الشعب الموجوع إلى الفرح، ومدى بحثه عن سعادة جامعة توحد صفوفه بعيدا عن تعاسة اليومي والاخبار السيئة التي تلفحه كل حين.

ولأني من هذا الشعب، ومن الذين يحملون همه شاعرا ومفكرا، فلا يمكنني إلا أن أكون سعيدا لسعادة شعبي، وأن أطرب لما يطربه. أو على الأقل أن أبارك له هذا الفرح العفوي والانتصار الكاسح لمن اختاره.

ولكن: لا يمكنني بأي حال أن أتخلى عن حذري، وعن قدرتي التحليلية والاستشرافية، وأنا أتذكر كيف كان الفرح غامرا بعد “هروب المخلوع”، دموع الرجل وهتافة الذي اخترق العالم “هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية”. وكنت من أوائل المحذرين إن لم أكن أولهم فعلا، من شيء يختفي خلف ذلك الفرح، لمسته وأنا أقف في شارع بورقيبة يوم 14 جانفي مع الألوف التي كانت تهتف وترقص، وبدأ يتبلور بوضوح أكبر، حتى دخلت البلاد في نفق الارهاب والفوضى والرداءة في كل شيء، وبات الشعب يعاني أمورا لم يكن يتصور وجودها أصلا قبل “الثورة المباركة”.

الشهد البرلماني وفوز “ملك التهريب”، و”شيخ من شيوخ الوهابية وأحدي مديري شبكات التسفير”، وقيادات “الطابور الخامس لدعم ومساندة الارهابيين والدفاع عنهم” ومجموعة من الثورجيين المشبوهين، بالاضافة إلى كل التلاعب الذي تم ليفوز الذين تسببوا بشكل مباشر فيما أصاب تونس سواء تعمدوا ذلك أو لقلة الخبرة وسوء التدبير. كل هذا لا يجعلني أرقص مع الراقصين وأشعر بتلك السعادة وفرح الانتصار الذي غمر الجماهير.

يقوم العلم الاستراتيجي على قاعدة دونتها في كتابي “مدخل إلى علم الاستراتيجيا”، وهي مما استنبطته من قواعد في كتابي: “فن الحرب بداية جديدة”: في علم الاستراتيجيا: عليك أن تتوقع الأسوأ وتعمل للأحسن، لا أن تتوقع الأحسن وأنت تعمل للأسوأ”.

لذلك وجب التحذير مجددا، حتى لا يكون الفرح ملغوما كفرح الثورة الأول والهرم من أجل اللحظة التاريخية.

ليس هذا مجال الكلام عن صعوبة مهمة الرئيس الجديد، او البرنامج الرئاسي، أو محدودية الصلاحيات في غياب كتلة داعمة للمنهج الذي يريد أن يعتمده، بل هي كتل متناثرة ستملي شروطها وقد لا ترضيه.

ولا هو مجال الحديث عن آليات صناعة الرموز الجدد، دون تاريخ نضالي، في حين أن المناضلين الحقيقيين والذين خدموا الوطن والشعب في مراحل حرجة وخطيرة لا يتم الالتفات إليهم.

وليس المجال أيضا للكلام عن دور محركات صناعة الرأي العام والتحكم الجمعي، سواء من خلال تشويه طرف وإبراز طرف آخر، أو من خلال اللعب على قدرات العالم السيبراني المذهلة، وفنيات التلاعب الذهني الشعوري. وكل هذا انا أثق أن الرئيس الجديد لا يدرك وجوده أو أثره المباشر على تحوله إلى رمز وطني أو فوزه بالرئاسية، ولا ذنب له في ذلك.

لا أحمل للسيد قيس سعيد ضغينة، ولست من أصحاب العمى الايديولوجي أو العاهات النفسية الحاقدة والناقمة، إنما أرجو منه أن ينتبه جيدا، كما أرجو من الشعب الذي اختاره بتلك الاغلبية الساحقة أن يكون حذرا حتى لا يضيع حلمه مجددا، ولا تتحول صيحات الفرح إلى عويل الثكالى كما كان بعد سنة 2011. وعلينا أن لا ننسى وجود اعداء لهذا الشعب ولهذا الوطن. وأن رئيسا “نظيفا” في مستنقع السياسة والتآمر الدولي والداخلي سيكون غريبا وربما معزولا فاقدا للسند.

لا بد للرئيس الجديد من فريق عمل قوي يرى فوق الاديولوجيا وفوق الحلم الفلسفي لينظر إلى الواقع كما هو بلا مساحيق: واقع مليء بالمخاطر والمشاكل والتهديدات. واقع يستوجب عملا للانقاذ ومحاربة الفقر والبطالة والفساد والرداءة بشتى أنواعها ومكامنها. واقع لا يرحم. وشعب قصير الذاكرة، كثير المطالب، سريع التقلب، وقد يكون الذي يراه اليوم منقذه في مرامي نقده وتذمره في الغد القريب. وهو ما يجب تلافيه بمبادرات فعلية ناجعة ستحتاج كتلة برلمانية وحكومة قوية وفريق مستشارين للرئيس لديهم الكفاءة والمقدرة والرأي السليم.

رجاؤنا القلبي الخالص لرئيس تونس الجديد بالتوفيق، ورجائي ان تكون استشرافاتي السابقة حوله خاطئة كلها.

هل يمكن أن أريد لوطني إلا الخير.

#يا_وطن_وانت_حبيبي_وانت_عزي_وتاج_راسي.