4 دقائق للقراءة
مشانق الليل، مسرحية شعرية
المشهد الأول
(موسيقى حزينة، ضوء أزرق خافت.)
ما الحب إلا سراب، قال وهو يتكئ على جرحه.
صعدت حواء من ذاكرة قلبه إلى قلب ذاكرته، فرآها، ورأى البحر يلوح له من بعيد، والريح تسحبه وتضحك، والقمر يشنق نفسه بمشانق الليل، والنجوم ترقص كصبايا الأقحوان.
قالت له: أنا لا أحب هذا الحب.
كسر سكين الصمت بأنين الحرف ولكنه لن لم يقل شيئا، فقد كان هائما فوق حدود اللغة.
ارتفع شعرها مع الريح والموج، وتدلى القمر كأنما يريد تقبيل قمرين على وجهها، لكنه تراجع في النهاية حين رأى ارتجاف العاشق من صبوة لا تنتهي.
وهنا ظهر فوق البحر طيف قديم ينشد كلاما عجيبا لم يحفظ العاشق منه إلا هذا:
جاءت وجاء العشق يطرق بابها
وسعت إلى قلب الفتى فأجابها
حورية من نسل آدم لم تزل
تسقي المحب نميرها وشرابها
هي ها هنا في القرب وهي بعيدة
تبلي المتيم كم يذوق عذابها
البحر والقمر الجميل وشعرها
ومشاعر سهم الغرام أصابها
والعطر كل العطر عطر حضورها
حرف من التهيام زان كتابها
في حان ذاك الليل أرشف خمرها
حتى ثملت وما نزعت حجابها
هي في حجاب السر يستر أمرها
هي رقة الأنثى شهدت عجابها
تمشي على وجعي على شغف الهوى
تدنو وإني قد عشقت ترابها
فكأننا في الحب نفحة شاعر
مرت وأبقت في الخيال سرابها
المشهد الثاني
ضوء هادئ.
(موسيقى عود، صوت صباح فخري يغني قل للمليحة في الخمار الأسود)
صوت يتردد من خلف ستار الحياة: كانت تقود قلبه إلى الجنون، وعقله إلى الحكمة، وكان يتمزق بين جنون حكيم وحكمة مجنونة.
قال لها: هل الحب حقيقة أم نحن نخلقه بأوهامنا كي لا نشعر ببرد الوحدة وكآبة الوحشة..
لم تقل شيئا، لكن ذلك الشيء الغامض في عينيها قال الكثير.
عيناها…ملكوت من السحر وعالم من الغموض، نظرة النسر من فوق جبل الأنفة، ومقلة الطفلة تستجلي ألغاز العالم.
البحر ردد ترنيماتها الأزلية، والليل صمت طويلا، أما الطيف القديم فقد استمر في الهذيان:
قل للمليحة في اللباس الأسود
ماذا فعلتُ وقيد حبك في يدي
قد كنت أنظر للسماء فما بدا
إلاك في أفق الوجود السرمدي
أنا نظرت رأيت وجهك ضاحكا
مستبشرا يهدي المحب ليهتدي
في تيه هذا العشق انت منارتي
وبشارتي من بسط رحمة سيدي
لكنني والليل يجهل لهفتي
والبحر ينظر للجمال المسعد
ضيعت من كفي أنامل طفلة
ورجعت أعزف في الظلام الملحد
أبكي على طلل الأحبة مثلما
ناح الحمام على الصفي الأبعد
موتي بحبك يا جميل ومصرعي
وعلى جفونك جنتاي ومرقدي
المشهد الثالث
ضوء قوي، مكان غير واضح المعالم، اختلاط أصوات كثيرة متداخلة…..
طيف يمضي ثم يعود، ثم يمضي ثم يعود، ثم يختفي.
ثم تتضح ملامحه رويدا رويدا، حواء في مشية الحجل، على خدها حمرة الخجل.
حين رآها لأول مرة رأى روحه تمشي في جسد أنثوي، خرج قلبه من صمته وقال له: أنت لم تعرف الحب قط.
مد عقله يده ليغلق فم القلب وقال: هو لا يعرف الحب، أنت من عليه يعرفه.
تردد القلب ثم اعترف: أنا لم أعرف حبا كهذا الذي يسعى بي إليها.
ضحك الحب كثيرا، فوكزه العشق، وظهر الغرام بملامح شيخ كبير، يمسك عصا، ثم أنشد:
يا ناعم الأطراف يا سجاني
يا صوت ناي في النوى أشجاني
يا مرهف الإحساس يا نفس الهوى
يا ناعس الألحاظ والأجفان
يا من يحبه كل قلب نابض
يصبو إلى القد الطري البان
يهفو على شغف الوصال كأنه
غصن يميل برجفة الأغصان
متلهف للقرب يطلب حضنه
ويريد أن يلقاه كي يلقاني
أنا في كتاب الله نار محبة
وأنين عشاق مدى الأزمان
وقصائد ظمأى لبوح حبيبة
لم تكترث للبوح والإعلان
وأنا البحار ومن طوته بموجها
وأنا الرياح ولفحة النيران
وأنا الذي مازلت أتبع خطوهم
كي أرجع الإنسان للإنسان
المشهد الرابع
في غرفة مضاءة بضوء خفيف، ستائر شبه مغلقة، سرير وكرسي ورجل يجلس متأملا لوحة على الجدار.
يفكر فيها، ويعلو صوت يترنم من مكان بعيد، بموشح اندلسي: (لأحمد الكيواني)
بِالَّذي أَسكر مِن عُرف اللَما
كُل كَأس تَحتَسيها وَحَبب
وَالَّذي كَحَّلَ عَينَيكَ بِما
سَجَد السحر لَدَيهِ وَاِقتَرَب
وَالَّذي أَجرى دُموعي عَندَما
عِندَما أَعرَضت مِن غَير سَبَب
ضَع عَلى صَدريَ يَمناك فَما
أَجدَر الماء بِأَن يَطفي اللَهَب
يقف ويضع يده على قلبه، يتمايل ثم يجلس، ينظر إلى سقف الغرفة وينشد:
قَمَرٌ رَأَيْتُهُ وَالظَّلَامُ بِعَيْنِي
فَأَزاحَ مَا بَيْنَ الجَمَالِ وَبَيْنِي
وَأَنَارَ فِي رُوحِي وَنَوَّرَ خَافِقِي
وَأرَاحَ هَذَا القَلْبَ بَعْدَ البَيْنِ
يَا مُتْلِفِي عِشْقًا وَأَنْتَ مُتَيَّمٌ
وَمُعَذِّبِي بِالقَدِّ وَالخَدَّيْنِ
وَمُوَلَّهِي شِعْرًا يُدَاعِبُهُ الجَوَى
شِعْرًا بَدِيعَ الحَرْفِ عَنْ قَلْبَيْنِ
يَا مُؤْنِسِي وَاللَّيْلُ يَطْرُقُهُ الأَسَى
وَالبَحْرُ تِيهُ المَوْجِ خَلْفَ الأَيْنِ
مَا كُنْتُ قَبْلَكَ عَاشِقًا لَكِنْ بَدَا
مِنْ نَاظِرَيْكَ العِشْقُ رَأْيَ العَيْنِ
اللهُ مِنْ حُسْنٍ فَنِيتُ بِضَمِّهِ
وَبِشَمِّهِ قَدْ مَالَ بَيْنَ اثْنَيْنِ
قَلْبٌ يَئِنُّ وَعَاشِقٌ جَمُّ الهَوَى
بِصَبَابَةٍ فَاضَتْ عَلَى الحَدَّيْنِ
المشهد الخامس والأخير
شارع ضيق، ظلام، فانوس يشتعل ثم ينطفأ، صوت الريح العنيفة، رجل بمعطف أسود، يمشي حزينا، أمامه طيف امراة ترقص، تقفز، وتختفي، وفي الركن أناس كثيرون يمشون في صمت، يناديهم لكن لا احد يسمعه، يتفطن أنهم لا يرونه.
يلمع ضوء في السماء، بوابة تنفتح، ينزل منها مجموعة من دراويش المولولية ويلفون حوله، ومنشد يترنم بنشيد حزين لأبي مدين التلمساني:
تذلَّلت في البلدانِ حين سبيتَني
وبتُّ بأوجاعِ الغوى أتَقَلَّبُ
فلو كان لي قلبان عشتُ بواحدٍ
وأترُكُ قلباً في هواكَ يعذَّبُ
ولكنَّ لي قلبا تملَّكهُ الهوى
فلا العيشُ يهتنا لي ولا الموت أقربُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يضمها
تذوقُ سياق الموت والطفل يلعبُ
فلا الطفلُ ذو عقلٍ يحنُّ لما بها
ولا الطيرُ ذو ريشٍ يطيرُ فيَذهبُ
تسمّيتُ بالمجنون من ألم الهوى
وصارت بي الأمثال في الحي تُضرَبُ
فيا معشرَ العُشّاقِ موتوا صبابةً
كما ماتَ بالهجرانِ قيس معذَّب
تظهر اطياف وتختفي، ثم تلوح فتاة شابة من خلف الستائر، تتحرك وفي يدها سيف، ترقص وتقوم بحركات قتالية، ثم تخترقه طعنة في ظهره، يقع على ركبتيه وينشد:.
لَمّا شَكَوْتُ لَها داستْ عَلى عُنُقي
وَتَبَسَّمَتْ جَذلًا في غَيهبِ الغَسَقِ
قُلتُ السَّلامَ وَما أَبغي هُنا جَدَلًا
بَلْ لِلرَّحيلِ مَضى قَلبي بِلا قَلَقِ
إِنْ كانَ حُبُّها مِنْ ذُلٍّ أَنُوءُ بِهِ
فالعِزُّ مِن شِيَمي وَالعَزْمُ مِن خُلُقي
إِنّي الأَبِيُّ وَما أَرضى هُناكَ يَدًا
في الظَّهْرِ تَطعَنُني بِالمُرهَفِ النَّزِقِ
عَيْنانِ لا شَغَفٌ وَالقلبُ لا كَلَفٌ
في لَفْظِها صَلَفٌ حَرفٌ بِلا عَبَقِ
وَجُفونُها حَذِرَتْ لِلصَّبِّ ما عَذَرَتْ
في قَتْلِهِ نَذَرَتْ عَهدًا وَلَم تَثِقِ
الهَجرُ يَنسِبُها وَالبُعدُ يَكسِبُها
مَنْ كانَ يَحسِبُها سَعدًا لَدَيها شَقِي
يشتد الظلام إلى من ضوء أحمر خفيف، تتدلى مشانق، وتنغلق الستارة.
النهاية، ربما…