صيد

5 دقائق للقراءة

يُحكي عن نمر فتي وقوي جدا، لم يتمكن نمر من هزمه مطلقا، كان أسطورة غابة النمور والغابات المجاورة، مجرد ذكر اسمه يبعث الذعر في قلوب الغزلان والحسد في قلوب السباع كلها، ولم يكن يهتم لكل ذلك، كان يحب السفر كثيرا، ومحترفا في فن الصيد، كل شبل يستلهم منه، والطيور تحكي قصص أمجاده، حتى نسور الجبل والنوارس تحكي عنه وعن بطولاته، وأصبحت الدلافين والأسماك تتمنى لو كانت برية لتراه وهو يصطاد، لأن صديقنا النمر كان لديه هواية واحدة مفضلة: الصيد، ومهنة واحدة يكسب منها قوت يومه: الصيد، كان هاويا ومحترفا في نفس الوقت، لأن قانون الغابة يسمح بذلك، ومن خلال حبه للسفر وترحاله المستمر، كان لا يفوّت فرصة للصيد مستخدما في كل مرة طريقة جديدة لأنه يعتبر نفسه فنانا لا مجرد صياد، افتراس وصيد الغزلان لا يضاهيه شيء عنده،وهو موهوب بالفطرة والوراثة في ذلك، لكنه فاق جميع أجداده وأنداده، ورغم خوف كل غزال منه، فإن الغزال الأكثر حظا من يصطاده صاحبنا، فرصة عظيمة، أحسن من أن يصطاده ضبع أو ما شابه.

ذات مرة كان يجلس على غصن شجرة ضخمة باسقة، يتأمل الغابة والجبل، سمع هدهدا يحكي لنقار خشب لم يغادر تلك الشجرة أبدا لأن خشبها كثير، كان يحدثه عن غابة بعيدة ليس في العالم غابة مثلها: لو رأيت غابة العشق وروعتها…إنها خلف الجبل، هنالك، فيها أجمل الغزلان وأعذبها، وأشجع النمور وأكثرها شراسة، من يتمكن من عبور الجبل، يحظى بمجد لا ينتهي وصيد وفير….
استمع النمر بانتباه، فقد كان فنانا في التنصت والاستماع، لأن ذلك من شروط الصيد، وهنا لمعت فكرة في رأسه فاصطادها، أجل، إنه النمر الأقوى في غابة النمور وغابة الضباع والغابات المطيرة، فليعبر الجبل إلى غابة..غـ…ـا..بـ…ـة…الـ…عــ..شــ…ـق…نعم..غابة العشق..وليحظى بأجمل صيد وأروع وليمة…
نزل من الشجرة بقفزتين ومضى جذلان طرِبا، نظر الهدهد إليه من فوق..وارتسمت على منقاره ابتسامة ماكرة….

***********

وهو يعبر الغابة كان يستمع إلى همس الأغصان والسنانير الصغيرة والعصافير: إنه هو..أجل..قوي جدا…إنه بطل الصيد….
مضى غير عابئ وفي نفسه ضحكات فرح تتعالى..صعد الجبل..نزل من الجبل، لا أحد يعرف كم من الوقت استغرق ذلك، بعضهم قال أن خمسين سحابا مر فوق الجبل ليتمكن من عبوره، وآخرون أقسموا أنه قفز الجبل كله دفعة واحدة، كانت هذه الرواية المفضلة لدى الخلد والقندس الذي لم يغادر مخابئه مطلقا إلا قبل فيضان النهر…
في أحد مداخل الغابة كان هنالك لافتة، لم يلتفت إليها، فهو لا يملك الوقت لقراءة الكلام الفارغ، أو ربما هو لا يعرف القراءة، ولج غابة العشق في نشوة غامرة، ودون أي إضاعة للوقت من الراوي، وجد صاحبنا نفسه أمام بحيرة صغيرة،وبجانب الماء كان هنالك غزال لم تر عيناه أجمل ولا أروع منه، يرعى بهدوء ويأكل الأزهار الندية كأنه لا يأكلها، ربما هو يقبلها فقط، اختفى صاحبنا خلف الشجيرات، أحس بنفَسه يضطرب من أثر التشويق، هدأ وأغمض عينيه وعَدَّ للواحد، كان الرقم الوحيد الذي يعرفه، لذلك حرص على أن يكون الرقمَ واحد دائما، الأولَ في كل شيء، هدأ قليلا، انساب بخفة وزحف ببراعة على الأعشاب الطرية، ثم قفز بحركة لولبية مذهلة، كان يحب الجمباز ويحلم أن يعمل في السيرك، ثم جرى وهو يخفي ذيله من جذع لآخر، كان يرتدي جلده المزركش، وحذاء رياضيا جديدا وجده بجانب اللافتة عند مدخل الغابة، بدا أكثر خفة فيه، وهو لا يصدر صوتا على العشب أو العيدان الصغيرة التي بانكسارها قد يجفل الغزال المحترف في فنون الفرار من محترفي الصيد الأكثر براعة، لكن صاحبنا وهو بقوم بقفزة لولبية تعثر بخيوط الحذاء ووقع على غصن مقطوع يابس فكسره وسُمع صوت أجفل الطيور القابعة فوق الأشجار تشاهد الملحمة، لكن الغزال لم ينبته، كان منهمكا بتقبيل الزهور، حتى أنه لم يتحرك من مكانه، لابد أنه أغبى غزال رآه في حياته، لكنه حتما أجمل غزال شاهده…
ابتسم الغزال وهو يرى الهدهد يحلق على مسافة قريبة، نظر خلفه بسرعة بعينين لم تر الغابة أجمل منهما ولا أكثر سحرا واتساعا وسوادا، رأى النمر ينهض ببطء من وقعته وهو ينفض جلده المزركش ويعيد ربط خيوط الحذاء بمخالب مرتعشة، ويبدو عليه الحنق والاضطراب، ثم تظاهر مجددا بالانهماك في تقبيل الزهور وادعاء أكلها…

بسرعة كبيرة واحتراف كامل، نهض النمر الأقوى والأسرع والأشهر في غابات النمور والغابات المطيرة من وقعته الموجعة، ربط خيوط الحذاء بتسارع مذهل ونفض جلده المزركش الجميل من بعض التراب والإثارة، كان يعلم أنها مغامرته الأولى في غابة العشق، وأن عليه أن يفرض نفسه، كان واثقا أن هنالك جمهورا كبيرا يشاهده، وأن عليه أن يكون كما تعوّد: الأول دائما..
قفز إلى الخلف ثم ارتمى على جذع شجرة أراد أن يرتكز عليها بمخالبه لكن الحذاء زلِِق فارتطم رأسه بالجذع وارتد إلى غصن آخر التف عليه بمهارة ليجد نفسه في أكمة من العشب اختفى فيها وهي على مقربة كبيرة جدا من الغزال…
الحركات البهلوانية أتعبته وارتطام الجذع برأسه أوجعه حتى كاد يغمى عليه، ففكر في النوم قليلا، فهو مطمئن إلى أن الغزال الذي أمامه لن يتحرك، نظر إليه، جميل جدا بشكل موجع، أحس خفقان قلبه يزداد، قام بالعد إلى الواحد، ازداد الخفق، كرر العد إلى الواحد مئة مرة، لكنه أحس انجذابا عجيبا، كان هواء تلك الغابة مختلفا، كأنها تعطّرت لتوها، أحس شيئا شبيها بالعشق الذي لم يجربه يوما، تساءل في أعماق خوفه: هل يعشق النمر فريسته؟؟؟
ثم تساءل من أعماق نفسه عن سر الخوف الغامض في قلبه: هل يخاف صياد من طريدته!!! مفترس من ضحيته!!!
بين الخوف والعشق والحيرة والرغبة في النوم مكث برهة، اقترب الغزال منه وهو يطارد فراشة، قفز ورقص فسال لعاب النمر واصطكت أنيابه وارتعشت مخالبه، لقد عشقه فعلا، ثم رجع الغزال بكل هدوء إلى موقعه يقبّل الزهور بشغف…
*عجيب..كيف لم ينتبه لوجودي مع أنه وهو يرقص مر فوقي مباشرة!!!…
ابتسم ثم ضحك وهو ينظر إلى حذائه الجديد: لابد أن الغزلان في غابة العشق لا ترى النمور مطلقا، وهنا قرر الهجوم..قفز من بين الأعشاب وزأر بشدة، تذكر أن جده أوصاه في أول درس صيد له أن على النمر ألا يزأر قبل أن ينقض، فذلك يُجفل الفريسة، بخلاف الضباع فهي تحب أن تصدر صوتا يخيف السنانير والطيور الصغيرة، ثم تكتفي بأكل بقايا الجيف وفضلات السباع..
رجع إلى الأكمة مجددا بحركة بارعة للخلف، لابد أن يتم الأمر وفق ضوابط وقوانين فن الصيد، ما راعه حقا أن الغزال لم ينتبه، وبدا له كأن الهدهد يطير من حول المكان وهو يقوم بإشارات بجناحيه لم يفهمها لأنه لم يتعلم لغة الأجنحة…
وقبل أن يصاب بالجنون، غمره عشق شديد، وبلل قلبه الجاف، ثم انطلقت في صدره رصاصات الرحمة، أحس بحنان غامر على ذلك الغزال، فكر أول مرة في ضحاياه، أحس بالدمع يغرق فكيه، أراد إخراج مخالبه فرفضت بإصرار، ربما خوفا من تمزيق الحذاء، نزع الحذاء من مخالبه الأمامية، ووضعه في المخالب الخلفية، قال أن ذلك سبب تعثره منذ قليل، أخرج مخالبه بتوتر، واستعد، جمع الهواء في رئتيه، عدَّ للواحد مرتين، ثم قام بحركة نَمِرِيّةِ للأمام، قفز بسرعة وزأر بذعر ونظر بشغف وهو يفتح قوائمه كأنه هم بالاحتضان لا بالافتراس، وكان في عينيه شعاع عشق عجيب….
وصل بجانب الغزال الذي لم ينتبه أبدا ولم يتحرك من مكانه، لف الهدهد وارتفع وأغمضت الطيور فوق الأغصان أعينها بأجنحتها، وفجأة التفت الغزال، فتح فمه والتهم النمر وجلده المزركش في أقلّ من نفَس، وتطاير الحذاء بعيدا…
لم يفهم النمر ما حصل له، لقد رأى أجمل عينين في حياته، كان ذلك آخر ما رآه قبل أن يغيب في قلب فريسته، التهمه العشق في قلب الغزال، صار الصياد فريسة حين عشق…وغاب زئيره المرعب في أنة خافتة وهو يحس بجسده كله يُبتلع في لقمة واحدة…

نظر الغزال إلى الهدهد وابتسم، ثم مسح بقايا الدم على شفتيه، وقبّل الزهور بامتنان، ثم مضى يرقص ويغني، نزل الهدهد وحمل الحذاء بمنقاره، طار إلى مدخل الغابة وعلقه على اللافتة، ونظر إلى الخط الوردي الواضح المكتوب بحروف كبيرة مشَكّلة لم ينتبه نمر لها أبدا…وقرأ بخشوع:
“فِي غَابَةِ اَلْعِشْقِ….يَفْتَرِسُ اَلْغَزَالُ اَلنَّمرَ”….

دمشق
‏09‏/02‏/2010‏ 02:38:18 م

منشورات ذات صلة

انتهى الوقت من مجموعتي القصصية وجوه
ذات مساء هادئ مسكون بالهواجس والرغبات، جلس ثري بملابسه الثمينة وساعته الغالية على طاولة مما يكون قصور الأثرياء، وقد بسط أمامه الدنيا التي أوتاها:...
3 دقائق للقراءة
كأس ماء
  لم يعلم ما الذي أوصله إليها. كانت ممتدة على مرمى البصر، بكثبانها الهائلة، ورمالها التي تذروها الرياح. كان الصمت مهيمنا رهيبا كمجلس حاكم...
2 دقائق للقراءة
لستُ وهما
لأيام طويلة لم يكتب إليها شيئا. كان يشعر بفراغ كبير في قلبه، بخواء رهيب في عقله، وبصراخ يمتد على مساحات روحه الممتدة في عوالم...
2 دقائق للقراءة
من أنت
  كان الليل مظلما، وكان المطر ينهمر غزيرا ويدق بأنامله الرقيقة على نافذة الفيلا الفاخرة. نظر إلى ساعة يده الفاخرة المرصعة بالماس، شعر بثقل...
< 1 دقيقة للقراءة
النور الأخير
    سأموت قريبا، وبعد هذا الموت، سأولد، وأكون مختلقا، وأنسى حتى أتذكر.. لكني سأقتلك لو نسيتني. وهل يمكن أن أنساك يا مريم. كان...
5 دقائق للقراءة
حكاية سمكة
يحكى أن سمكة كانت تسبح في اليم فرأت طعاما معلقا بخيط يتدلى من أعلى،  ففرحت فرحا شديدا، وحسبت أن قوتها أتاها بلا عناء من...
< 1 دقيقة للقراءة
حكاية جابر
لم يكن جابر يوما مريضا، فقد كان قويّا كالثيران التي يربيّها، ليبيعها للمزارعين والقصّابين. وقد ورث عن والده قطعة أرض أتقن زراعتها وتفنن في...
11 دقائق للقراءة
الغرفة
من مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان     لسنوات طويلة كنت أحاول دخول “الغرفة”، لكنني لم أقدر، فكل المفاتيح التي استخدمتها لم تفدني بشيء،...
11 دقائق للقراءة
الكرسي
من مجموعتي القصصية “وجوه”   لا أعلم كم من الزمن مضى وأنا غائب عن الوعي. ولست أذكر الكثير عن نفسي، كل ما أذكره أني...
4 دقائق للقراءة
أرض النسيان
كُتبت بالاشتراك مع صاحب الظل الأخضر، وصاحب السيف الأصفر. ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر 11)     لم أتصور أننا يوما سنفترق...
6 دقائق للقراءة