المقامة الضارية 2

5 دقائق للقراءة

الدرس الثالث: درس في التنفس

تنفست الأم الصعداء عندما عاد ولدها من النهر الذي لا يتنفس فيه السمك..
نفس الأسماك استعمرت البر..والتهمت صخور الشاطئ..
لماذا أحدثكم عن هذه الأشياء التي تخنق النَّفَس؟
سأقص عليكم قصة عن الرجل اللاهث الأنفاسْ، ابن فقاعة الأظلم نبراسْ، لما ورد وادي أتانة في العام السابع بعد العاشر من شفتيه، انفلت الحزام فرقصت الدراهم في مقلتيه، وقرر أن يعلمهم علم الغوص في الأفق..السباحة في الأفق..علم التنفس فوق الرئتين..
ولقد رأينا كيف، مات الخريف ومر الصيف، فأنجبت الدجاجة سردابا يبيض أقبية تمطر تيجانا مرصعة بالحصى، وصاحبنا…صاحب العصا، لما رأى الدنيا لا تدومْ…والطير لا يحومْ… أزمع أن يكون معلما للرقص الجوي …وأفرد لذلك سنينا عددا من أيامه اللولبيّه… وبما أن التحليق يحتاج إلى رئة قويّه.. أبصر بأذنيه أن يعلمهم “علم التنفس” ماكان منه بالجبلة أو من صنع الآحاد…
وإليكم هذا الملخص…
ـ اعلموا ـ قال رحمه الله ـ أن الطيران لا يخلو من مشقة.وقد تصادفون أثناء تحليقكم مصاعب شتى. و”شتى” عمة “حتى” التي مات جد جدي وفي نفسه شيء منها.
ولقد كان لـ”كان” أخوات كثيرات,تزوجت إحداهن “لعلّ”,وعسى أن تعود كما كانت.. و”كان” أخت “الحسرة”, قتلها “عندما”صبيحة فجر اليوم الموالي.
وعليه ـ تدور الدوائر ـ فإن الأمر يستلزم تعلم علم لا غنى لطالب الفضاء عنه وهو علم التنفس.
اعلمي أيتها “النسور الجليلة” ـ و”جليلة” هذه لا علاقة لها بـ”جميلة” التي لها ثلاثة أولاد ـ أن التحليق يحتاج نفَسا,وتصفيق الجناح نفَسا أطول.
صفقوا بأجنحتكم واحبسوا الهواء في نحوركم…
يضرب كل حمار حافره بالآخر فتصدر جلبة يعقبها جلب لبعض الهدوء.
أرأيتم!!!
التنفس هو دخول الهواء من الأنف,والفم,حيث يمر أولا بالحلق,ثم ينهمر في الرئتين,فتشتعل الوسادة
وينام البلبل, وهكذا يخرج الهواء من مخارج شتى حتى لا يبقى منه إلا نفر قليل…
وينقسم التنفس, حسب حكات الرئة ونوعية الهواء إلى “شهيق” و “زفير”.
أنت.. إلى ماذا ينقسم التنفس؟
ـ إلى “نـ….هـ…يـ…ق” و”حـ…فــ…يــ…ر”
من منكم يجيب..
لا بأس في أن تخطئوا.. هكذا يأتي العلم.. بالخطأ…
يرفع كبير الجماعة حافريه:
“حسب ظني…
فإن النهيق صعب في البداية..فقد أغمي علي عندما غنيت لأول مرة.
وكنت حينها معجبا بأتان ولدت ولم تمت.
اردت أن أريها مقدرتي وصوتي الجميل..
اقتربت منها..
نفرت.
لابد أنها لا تخجل..
ركضت حولها, وضربت بحوافري الأرض.
طمرت رأسها في العشب الأصفر اليابس,ورقص ذيلها يمينا وشمالا حتى دارت بي الأودية.
اقتربت منها.
كان أحد منافسي يرعى القصدير في مكان قصي.
استجمعت قواي..
تسرب الهواء من كلّ وتغلغل فيّ…
انتفخت بطني..
تورمت أحداقي..
وأطلقت عقيرتي بالصداح لأول مرة في حياتي..
آه..لقد فعلتها..
وكان حرف حاء طويلا جدا..
أطول من حياتي..
ومن ذيلها..
ثم صار المكان ضيقا..
وانبطحت أرضا..
حين أفقت من غفوتي,وجدتها تزوجت من القصي,
ونبت لها جروان,أحدهما أنثى,تزوجتها.
وهكذا..
على من يسمع هذا الكلام أن يعتبر..
فلا يهدر نفَسه..فالنفَس نفيس..والنفْس أنفسْ..ونفْسي نفْسي..ولتهلك الأنفسْ”..

…………………………………………………………………………………………………………….(CB(الدرس الرابع: درس في علم الغناء)CB)

يقول من يخاف ضوء النهار..ِ
وقعقع في الديار ِ..
ابن يتولاّه فهيم الضّاري…
لما رأيت انكباب الناس على الأدنية..
والعشب المعشش في الأبنية..
وأحسست اقتراب الأجل..
والفرقة والوجلْ..
استجمعت أضدادي….وجمعت أولادي..وقررت أن أقص عليهم….القصة التي….أقصها عليكم….الآن..
كنت ليلتها أغني..وعناء “الغناء”يغني عن سواه..
فأنصتوا..
“إن النسور ـ هتف نبراس ـ في قممها الشمـاء تغني ـ للمجد والأجنحة.
وانتم نسور,ربما فقدت الذاكرة,وأنا لكم عساكم تذكرون.
واعلموا هديتم أن الغناء للطّير ضرورة.
ألا تسمعون غناء البلبل والعندليب,وزقزقة العصافير قبل المغيب.
ولكي يستقيم الغناء لابد من صوت جميل.
ولجميل أم كانت تحمل الحطب حتى غدت حطبا.
وإن أنكر الأصوات.. لَـصوت حق أريد به باطل.
وقد بطل الإدعاء في هذا الباب, فقفز من الشباك ضبع يولول.
والغناء “فـن”، وهو كفنّ “كَفَنٌ” للرديء, ترديه الخفقة المتأوهة.
ولعل عتبة ذلك عند أقوام توأم “العين لام”.
وقد تسبق “اللام” “العين” في أحايين, فلا بد لمن يريد تعلم هذا العلم أن يبدأ بليله فيناجيه,وعينه فيستحثها.
ليل داجْ.
وعين ذات أبراجْ.
والليل قد يكون مظلما,خاصة في الشتاء,أو مقمرا بفوانيس,ويستعمل غطاءا للضوء ورداءا للألوان.
أما العين فأصناف..
فهنالك “العين التي لا تعلو على الحاجب”، و”عين الماء الحارة”، و”العين الحمئة”، و”عين القطر”، وكذلك “عين أصابتني”، و”عين الحاسد والمعيان”، و”عين الأعمى” و”عين اليقين” وغير ذلك…
وإن الجمع بين”الليل”و”العين”لجمّ الفوائد عظيم الأسرار..
وقد كان “المنطروس” يستعملونه طلسما في حربهم على “البقدنوس”.
وكذلك يستعمل الـ”ع….ل” إذا مزج بـ”ياء النداء” أو”آه الندبة” كعلاج” للنوم المغلق” أو كسلاح لصيد “النوم المفتوح”..
ويستلزم الغناء علما بالموسيقى,التي جعلوا لها سلما, وقد صعد عليه جدي فانكسر خشب فهوى على رأسه فمات لحينه. لكن هذا العلم سر لا ينبغي الخوض فيه.”
“وكنت حين أفقت ـ يهتف الحمار الأكبر ـ فاقد النفَس حتى بكيت نفْسي.
لكني تعلمت كيف أصدح ولا يغمى علي,فنهقت في اليوم أكثر من مرتين ولم يصبني شيء,عدا بعض الدوار,وقد قيل لي أنه “دوار البحر”.
وأنا الآن أدرب جوقة كاملة..
انظر أيها العصا..
وبـإشارة من حافره.. تصطف الجماعة وتبدأ في غناء لا ليل ولا عين فيه,
لكن الرقص كان مغريا والدمع مجريا..
وكانت كلمات الأغنية تقول على ما أذكر:
“حاءْ..
نحن دوما أصحاءْ..
حوءْ..
لا وجود لكلمة تبدأ بحوءْ”
ارتج المكان.. تمايل العشب.. وتسابقت الخنافس.. لتنصت.. وترتشف النهيق…

(CB(الدرس الخامس: درس أخير في الطيران)CB)

عذرا..
علي أن أذهب للقاء “شمهورش” في “وادى الجن”.
وقد سبقني رأسي إلى هناك.
لا وقت عندي للتفاصيل.
هي قصة وكفى.
اسمي تعرفونه.
واسم صاحبكم ابحثوا تجدونه.
وفي نفس الوقت سيندلع الطوفانْ
الريحُ
تصر علي الحبيبة
أن ليس لديّ غير ثمانْ
وأعمل خشبة في باب مغلق قديمْ.
والرجل كان يعلمهم ليحلِّقوا
ولْيحْلَقوا أذقانهم
أو يحفوا شواربهم
العلم المنتهى.
كي تنتهي الحكاية سريعا..
فلا وقت لديّ.
كان حول الوادي تلال كثيرة
“انظروا الجبال ـ قالْ ـ
ما أعظم الجبالْ
سوف نجرب الآنْ
فقد صرتم جاهزين للطيرانْ
يا نسور ويا بواشق
يا صقور ويا عقبانْ
ما أتعس الإنسانْ
حين لا يقدرْ
حسنا
سأجمع اريش لأحلق مثلكم..”
ينقض على العشب يجمع منه حزمة عظيمة مباركة.
هذا الريش جناحي –قال..تعالوا معي..
تنفر الأحمرة..
ينظر كبيرهم إلى حزمة العشب ويهمس:”لابد ان لديه وليمة..هيا لنتبعه…لنأكل…ولنسترد حزمتنا..فهي من حقنا..وقد سرقها منا”..
يصعد “نبراس الأظلم”، وخلفه تنزلق ذوات الأربع إلى أعلى.
تشرئب الآذان….تلتصق الذيول….وترتعد الحوافر…. لأول مرة يصعدون إلى مثل تلك القمة..
“انظروا العوالم تحتكم أيها العظماء”
ينظرون إلى أسفل، ويتأسفون على المرعى الذي تركوه، والعشب الذي لعد لم يأكلوه.

“هيا انطلقوا
حلقوا
رفرفوا”
يرفرف بيديه…. يتمايل…. ثم يجري
“هكذا…حلقوا…رفرفوا”
يركض وهو يرتدي العشب
“هيا…حلقوا”
صادف أن مر “سبع” كان يسكن “الجبال”المجارة، وسمع الجلبة فأراد أن يستجلي الأمر.. قفز من تلة إلى أخرى، وكان يتأفف لصغرها، ثم وثب وثبة صغيرة عبر بها الوادي واستقر قرب القطيع.
أصيبت الجماعة بالهلع.. تدافعت لتحاول الفرار.. وقفزت من فوق التلة… واحدا تلو الآخر…
ارتطمت بالأرض….خرجت الألسن….تدلت الآذان…. اِلتوت الذيول….تحطمت الحوافر….كثر الأنين..
“كنت أعلم أنكم ستفعلونها
لا بأس
قد لا تنجح المحاولة الأولى
سوف نعيد
فالمحاولة شرف
انظروا
سوف أحلق”

يثب من فوق….مرفرفا بأجنحة العشب…ليهوي سريعا…وعندما عانق رأسه حجارة كانت تنام في القاع بهدوء…

انفجر الدم من بين عينيه
نظر حوله
“آه
لقد كانت أحمرة”
ومــــــــــاتْ.


– انتهت –
شعاب معان – تونس
29 أفريل 2005

منشورات ذات صلة

انتهى الوقت من مجموعتي القصصية وجوه
ذات مساء هادئ مسكون بالهواجس والرغبات، جلس ثري بملابسه الثمينة وساعته الغالية على طاولة مما يكون قصور الأثرياء، وقد بسط أمامه الدنيا التي أوتاها:...
3 دقائق للقراءة
كأس ماء
  لم يعلم ما الذي أوصله إليها. كانت ممتدة على مرمى البصر، بكثبانها الهائلة، ورمالها التي تذروها الرياح. كان الصمت مهيمنا رهيبا كمجلس حاكم...
2 دقائق للقراءة
لستُ وهما
لأيام طويلة لم يكتب إليها شيئا. كان يشعر بفراغ كبير في قلبه، بخواء رهيب في عقله، وبصراخ يمتد على مساحات روحه الممتدة في عوالم...
2 دقائق للقراءة
من أنت
  كان الليل مظلما، وكان المطر ينهمر غزيرا ويدق بأنامله الرقيقة على نافذة الفيلا الفاخرة. نظر إلى ساعة يده الفاخرة المرصعة بالماس، شعر بثقل...
< 1 دقيقة للقراءة
النور الأخير
    سأموت قريبا، وبعد هذا الموت، سأولد، وأكون مختلقا، وأنسى حتى أتذكر.. لكني سأقتلك لو نسيتني. وهل يمكن أن أنساك يا مريم. كان...
5 دقائق للقراءة
حكاية سمكة
يحكى أن سمكة كانت تسبح في اليم فرأت طعاما معلقا بخيط يتدلى من أعلى،  ففرحت فرحا شديدا، وحسبت أن قوتها أتاها بلا عناء من...
< 1 دقيقة للقراءة
حكاية جابر
لم يكن جابر يوما مريضا، فقد كان قويّا كالثيران التي يربيّها، ليبيعها للمزارعين والقصّابين. وقد ورث عن والده قطعة أرض أتقن زراعتها وتفنن في...
11 دقائق للقراءة
الغرفة
من مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان     لسنوات طويلة كنت أحاول دخول “الغرفة”، لكنني لم أقدر، فكل المفاتيح التي استخدمتها لم تفدني بشيء،...
11 دقائق للقراءة
الكرسي
من مجموعتي القصصية “وجوه”   لا أعلم كم من الزمن مضى وأنا غائب عن الوعي. ولست أذكر الكثير عن نفسي، كل ما أذكره أني...
4 دقائق للقراءة
أرض النسيان
كُتبت بالاشتراك مع صاحب الظل الأخضر، وصاحب السيف الأصفر. ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر 11)     لم أتصور أننا يوما سنفترق...
6 دقائق للقراءة