التصوف الاستراتيجي بنية الأصل وهيكلية الفروع

هذه هدية قيمة للباحثين عن حقيقة التصوف، ولطلبة العلم في هذا المجال الواسع الشاسع، والمظلوم ممن ينتحله انتحالا، وليس منه في شيء مقالا وحالا، وممن يخوضه بلا علم، او يتخذه تجارة واحتيالا. وممن يكفّر أهله وينسب إليهم الجهل والشرك والضلال.
وهي رحلة مع التصوف النقي ضمن تمشّ علمي دقيق وفريد ومبتكر، قسمنا فيه التصوف إلى مرحلتين: مرحلة بنيوية، ومرحلة هيكلية. وهذه مقدمة الكتاب الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه في التصوف تمت مناقشتها بتاريخ 16-02-2020 مع الأكاديمية العالمية لعلماء الصوفية، وفي متن الكتاب تفاصيل ذلك.

الحمد لله الذي هدى إلى الإيمان، ونزّل على عبده القرآن. والصلاة والسلام على نبي الهدى والخير والإحسان، سيدنا محمد رفيع القدر والشأن، وعلى آله سادات الأكوان.

ورضي الله عن أصحابه أهل العهد والرضوان. وسلام على الصالحين والمصلحين في كل مكان وزمان.

وبعد: يعتبر علم التصوف من المباحث العلمية والأكاديمية المهمة، ذلك أنه لم توجد مدرسة لها من الموالين والمحبين، وأثارت الجدل الواسع مثل التصوف.إضافة إلى كثرة تصانيف رجاله في شتى مجالات العلوم والفنون، وكثرة التصانيف عنهم وعن مناقبهم وعلومهم وكراماتهم وأحوالهم، وكذلك تصانيف من يروم تفنيد أقوالهم وإنكار أحوالهم، ثم اهتمام المستشرقين بالتصوف تاريخا وفلسفة وأدبا، وهذا أدى إلى ثراء كبير ومدونة زاخرة، وكنوز قيّمة فاخرة.

كما أن الحركة الدعوية الصوفية تمثل الامتداد الأوسع للدين الإسلامي، إذ كان رجال التصوف رجال دعوة وإصلاح، وتجديد وبذل وسلام ومحبة وخير، وقد نشروا الدين في أصقاع الأرض كلها حتى بلغوا مناطق لم تصلها جيوش الفاتحين.ففتحوا بسر المحبة ونور المعرفة قلوب وبصائر الناس لقبول الشريعة المحمدية الغراء النقية، وللدخول في مسالك التربية والتزكية الصوفية، التي هي من جوهر الإسلام ومن معين الهدي المحمدي، فبقيت آثارهم شاهدة لهم في كل أرض وصلوا إليها، وبقيت مقاماتهم بالخير عامرة وبحورهم بالحب غامرة.

ولكن هذا لم يمنع وجود دخلاء على طريق القوم، وأعداء متربصين بهم، إذ المفسدون يمقتون المصلحين، والمتعصبون يكرهون أهل الرحمة والانفتاح، ومن صغت قلوبهم بالبغضاء لا يقبلون أصحاب القلوب الطاهرة البيضاء.

ولعل أشد ما كان في هذا الالتباس الداخلي والعداء الخارجي، ما جد في زمننا وحدث في وقتنا، حيث كثر الأدعياء، واشتدت الغوغاء، وظهرت أمواج عاتية تحاول طمس التصوف وتدمير مآثره وآثاره، لم يشهد التاريخ لها مثيلا، فما دمرته الفلول الإرهابية من زوايا ومقامات الصالحين في الشام والعراق وليبيا، لم يقم به الاستعمار الغربي ولا الصليبيون من قبل.

كما أن هيكلية الفروع الصوفية قد شهدت تحولات أدت ببعضها إلى الخروج عن بنية الأصول، وأودت ببعضهم إلى مخالفة ما كان عليه الأوائل الفحول، بحجة تجديد لم يتم فهمه، أو انفتاح لم يتم ضبطه، أو روحانية غلب عليها التوهم، أو لتجارة بدماء أهل الله وتلك أشد وأعظم.

وهذا أفضى إلى حدوث تصدعات داخل بعض أبناء الطريقة نفسها، وإلى خلافات بين بعض أبناء الطرق التي كان أقطابهما المؤسسون كأصابع اليد الواحدة أو كجناحي الطائر تعاونا وتآزرا ومحبة. واشتد حمى هذه الفتن عبر صراع الزعامات والخروج عن منهج السادات أهل الذكر والأوراد والمقامات.

وكذلك مثلت موجات الإلحاد والمادية العنيفة ضربات قاسية للمعتقدين عامة، وللطرق الصوفية خاصة، إذ تعتمد الأخيرة على المنزع الروحي، في حين تسعى المدارس الإلحادية الجديدة إلى طمس كل ما هو روحي في الإنسان.

في هذه الأطر ومن خلال عملي في المجالات الاستراتيجية ومكافحة الارهاب لسنوات، وكذلك اطلاعي المباشر والميداني على أحوال أهل التصوف عبر العالم، كانت فكرة بناء مصطلح جديد وهو “التصوف الاستراتيجي” الذي يعنى ببناء رؤى استراتيجية للعمل الصوفي تأخذ ببنية الأصل وتراعي هيكلية الفروع وتحاول تفعيل دور صوفي إسلامي عالمي، ضمن تمفصلات عديدة ومجالات كثيرة كالاجتماعي والتربوي والروحي.

وقد استغرق تفصيل هذه المسألة سنوات من البحث والترحال، ثم كان من نعم الله علي أن يسر صياغتها في هذه الأطروحة لنيل درجة الدكتوراه من مؤسسة عريقة تعنى بالشأن الصوفي ضمن رؤية أكاديمة وبثلة من أكابر أهل العلم والتصوف الحق على رأسهم الصوفي الهمام والعالم النحرير السيد محمد عجان الحديد الحسيني الرفاعي حفظه الله. وإنه لشرف لي أن أقدم هذا البحث تحت إشراف الأستاذ الدكتور صالح النعيمي حفظه الله.

وتأتي قيمة هذا البحث من قيمة الموضوع في قضيتيه الأساسيتين وهما التصوف معنى وحقيقة وقيمة، والعلوم الاستراتيجية دورا ونجاعة وفاعلية، ليكون الدمج بينهما بابا لرؤية استشرافية وتحليلية أدق، ولنظرة تأصيلية أشمل.

وقد رمنا أن نسلك منهج التأصيل العلمي للتصوف كعلم وفعل وتربية وممارسة. لنجيب عن أسئلة مهمة لا يمكن دون الإجابة عنها أن نطرق المجال الاستراتيجي وأن نقوم بهندسة مخططات ذات صبغية آنية ومتوسطة وبعيدة. وارتأينا أن نعرّف بالاستراتيجيا وبعض مجالاتها، وبالتصوف الاستراتيجي وقيمته والحاجة إليه. كما أحببنا أن يطلع على حقائق التصوف الناصعة أهل التصوف أنفسهم، وخاصة الشباب، وكذلك من لديهم مواقف من بعض ما رأوه لدى بعض المنتسبين للتصوف وإن كانوا لا يمثلون حقيقته، فوقع في خلدهم أن التصوف نقيض الشريعة وأنه فساد عقيدة وقول بالحلول والاتحاد، وأنه سلبية وانقياد، وأن رجاله كانوا أميين فلم يدرسوا فقها ولم يعرفوا علما ولم يؤسسوا لأي مشروع إصلاحي أو دعوي. وأن أهل التصوف كانوا مطية الاستعمار وجنده للتخلف والبوار، كما يردد الكثير من المعادين له المكفرين لأهله، أو أولئك الناعقون مقتا وانبتاتا ضمن هيمنة الفكر المادي عليهم.

وعليه سنبين بالحجج الراسخة والبراهين الثابتة والأدلة القوية أن التصوف أصيل في الإسلام وأصل فيه، إذ هو الإحسان وهو التزكية التي لا يصلح مؤمن دونها، وأن لبنيته أصلا ولأصله بنية، تأسست على التكامل مع الشريعة والانضواء تحت الكتاب والسنة والسير المنضبط وفق الشرع الرباني والهدي المحمدي. وأن فحول التصوف وأقطابه كانوا أيضا فحولا في الفقه وأقطابا في العلم. وكانوا على ذلك أهل دعوة وإصلاح وتجديد. وأهل دفاع عن حرمة الأوطان. ونسقوا مع أهل الخير من سلاطين الزمان. وكانوا أهل مقاومة للمستعمر وأهل جهاد بالحق لأجل الحق دون ظلم ولا عدوان. وهم على ذلك أهل حكمة ومكارم أخلاق، وأهل عشق ومحبة وأشواق. وأهل ذوق وشوق ناهلين من مدارج التلقي سالكين في معارج الترقي إلى العظيم الكريم الخلاق. كما سنبين المراحل التاريخية التي مر بها التصوف عبر نخبة من رجاله، مدققين في تلك المراحل بين النشأة البنيوية وبعض مواقيت التعسف والظلم لبعض رجاله والصمت في أقوالهم والتستر في أحوالهم، ثم كيف تم بناء الهيكلية وتأسيس الفروع وتنظيم الهياكل لتتبنى الدولة رسميا التصوف ويكون درعها الحامي وقوتها الروحية والمعنوية لطرد الغزاة وتحرير بيت المقدس، ثم لطرد المستعمر في فترة انهارت فيها الدولة وسقطت فيها الخلافة. ليكون ذلك باب للخلاصات في مسائل وقضايا تهم التصوف وتخص أهله.

ونرى أن هذه المرحلة هي عمق ما أسميناه “التصوف الاستراتيجي”، لأن فهم المرحلة البنيوية ثم المرحلة الهيكلية ومقومات كل مرحلة، سيكون فيه خلاصات فهم للمشروع الذي نود أن يكون، والذي لا يتم بالنظريات فحسب، بل بعمل جماعي تفاعلي كبير، فيه خير، وفي نفع، وفيه صلاح.  

وسيكون مخطط هذا العمل على النحو التالي:

`الفصل الأول :مفهوم التصوف، الاستراتيجيا، والتصوف الاستراتيجي.

وفيه ثلاثة مباحث:

  • المبحث الأول : التصوف ، لغة، اشتقاقا، واصطلاحا.
  • المبحث الثاني : الاستراتيجيا، لغة واصطلاحا.
  • المبحث الثالث: التصوف الاستراتيجي: المفهوم والحاجة إليه.

`الفصل الثاني: أصل البنية. وفيه ثلاثة مباحث:

  • المبحث الأول: التزكية: لغةً واصطِلاحًا.
  • المبحث الثاني: أنواع التزكية.
  • المبحث الثالث: مقام الإحسان.

`الفصل الثالث: بنية الأصل الصوفي. وفيه ثلاثة مباحث:

  • المبحث الأول: التقيد بالكتاب والسنة.
  • المبحث الثاني: العقيدة.
  • المبحث الثالث: الفقه.

`الفصل الرابع: هيكلية الفروع.

وفيه ثلاثة مباحث:

  • المبحث الأول: من الانزواء إلى البناء.
  • المبحث الثاني: التنظيم وتأسيس المدارس والطرق.
  • المبحث الثالث: الأدوار والفاعلية.

`الفصل الخامس:  بين التصوف والاستراتيجيا: مسائل وقضايا ومقترحات.

وفيه خمس مسائل:

  • االمسألة الأولى: أهل التصوف، أهل الحكمة ومكارم الأخلاق
  • المسألة الثانية: الكرامات، هل من منظور استراتيجي
  • المسألة الثالثة: لغة الوقت
  • المسألة الرابعة: التصوف المفقود والتصوف المنشود

خاتمة.`

سائلا الله عز وجل أن يوفق لما فيه خير الاسلام والمسلمين، وخير التصوف وأهله، وخير بني الانسان عامة. فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا بتعدد في اللون واللغة والدين، ولكنه أراد لذلك التعدد أن يلتقي وأن يتعارف، وإذا تعارف تآلف. فتلك حكمة كبرى جمعت بين روحية التصوف واستراتيجيات التواصل الانساني.

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ ﴾[1]“.

 

 

 

 

[1] سورة الحجرات الآية ١٣