4 دقائق للقراءة
يُعَدُّ علمُ الحديث من العلومِ الجليلةِ في التراث الإسلامي، إذ هو العلمُ الذي يدرُسُ حديثَ المصطفى ﷺ وسُنَّتَهُ المطهَّرة، بما في ذلك من تشريعٍ وتفسيرٍ للقرآن، وبيانٍ لحقائقِ الدِّين، وذِكرٍ لشيءٍ من أحوالِ وأفعالِ رسولِ الله ﷺ.
وقد قام على هذا العلم نخبةٌ من أعلامِ الأمّة، مدوِّنين ما تمّ تناقُلُه مشافهةً عن صحابةِ رسولِ الله، رغم أنّ بعض أولئك الصحابة قد دوّن شيئًا من الحديث، لكنّ مُعظمَه أُحرِق في عهدِ ثاني الخلفاء برأيٍ رأى فيه أنَّ: «حَسبُنا كتابُ الله». وهو رأيٌ عارضَه صفوةٌ من كبارِ الصحابة، ويحقُّ لنا أن نناقِشَه وننقُدَه؛ لأنّ من فعله ليس نبيًا، ولم يكن فعلُه وحيًا، بل قرارًا سياسيًا لا دينيًا، وإن غُلِّفَ بغلافٍ دينيٍّ.
وقد انبرى أهلُ الحديث يُحَقِّقون الأحاديثَ وفق منهجينِ غلب أحدُهما على الآخر:
المنهج الأول: نقد المتن، بالنظرِ في معناه، وموافقتِه للقرآن والسنة والعقل.
المنهج الثاني: نقد السند – وهو الغالب – بالنظر في الرجال: هل هم ثقاتٌ أم تُوجَدُ جِراحٌ في عدالتهم وضبطِهم؟ وكذلك البحث في اتصال السند، ودرجة الضبط، وانتفاء العِلّة، وتحديد ما إذا كان الحديث متواترًا أو آحادًا أو دون ذلك.
وعلى هذا انبنى عِلمُ الرِّجال، وعلمُ الجرحِ والتعديل، وتمّ تقسيمُ الأحاديث إلى:
الصحيح (وخاصةً: على شرط الشيخين)
الحسن (لذاته أو لغيره)
الضعيف بأنواعه:
المرسل (سقوطُ الصحابي)
المنقطع
المعضَل
المعلّق
المقلوب
المُدلَّس
المضطرب
المنكَر
المجهول
ثم الموضوع: المكذوب على رسول الله ﷺ.
لكنّ الشروطَ التي وُضِعَت للحكم على الحديث غلب عليها جانبُ السند، وتمّ التساهلُ كثيرًا في نقد المتون، وهنا كانت الطامّة.
فلا يخفى على أحد ما مرّت به الأمّة من فِتنٍ ابتدأت قبل وفاة الرسول ﷺ، ثم جاءت السقيفة التي أثّرت في مسار الأحداث تأثيرًا كاملًا إلى يوم الناس هذا، فتتابعت الفِتنُ والحروبُ التي استُعمِلت فيها كلُّ الأساليب: القتلُ والاغتيالُ والتسميم، واستجلابُ وضّاعين بارعين يضعون الأحاديثَ لخدمة المصالح السياسية، أو لتشويه سيرة المصطفى، أو للحطِّ من شأن مَن رفع النبيُّ شأنَهُم، أو لرفع آخرين لا يستحقّون، أو لتبرير تصرّفاتٍ وجرائم، يتم بمقتضاها وضع أحاديث واختراع قصص بل وبناء أحكام فقهية لا أساس لها.
ومن أمثلة ذلك جريمةِ قتلِ الصحابي الجليل مالك بن نويرة رضي الله عنه، ووضعِ رأسِه تحت القدر وحرقِه، واغتصابِ زوجته، ثم وضعِ «فقهِ الرِّدة» لتبرير ذلك، بزعم أنّ دمَ المرتدِّ مباح، ومالَه غنيمة، وزوجه حلال – وكلّ ذلك لتغطية جريمةٍ نكراء في حق صحابيٍّ كان من أحبّ الصحابة إلى رسول الله، ومن السابقين الأوّلين، وقد تمت تغطية سيرته وتغييب ذكره عمدا.
بل تم وضع قصة اخرى تبرر تلك الجريمة وهي قصة العرنيين التي زعموا فيها أن نبي الرحمة قطع ايديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم وعلقهم على جذوع النخل وتركهم يموتون!!
فهل تلك أخلاقه!
والقرآن لم يحكم بقتل من ارتد واستباحة ماله وعرضه، بل قال سبحانه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲۚ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ﴾ [المائدة ٥٤]
والأمثلة كثيرة جدا ولعلنا نكشف بعضها.
ولقد كثر الوضعُ وأصبحت له مؤسسة رسمية تدعمه بالمال وتستجلب له الوضاعين ممن باعوا الدين بالدنيا البارعين في التزييف، عند منازعةِ معاويةَ للإمام عليّ عليه السلام في حقِّه. كما شارك أحبارُ بني إسرائيل، ممّن دخلوا الإسلام، في وضع رواياتٍ مستمدّةٍ من تاريخهم في التزييف، كما في التوراة والتلمود، فتسرّب كثيرٌ من ذلك إلى السيرة، فظهرت رواياتٌ تحطُّ من والدي النبي، وتُنكِرُ حقائق لا ريب فيها، وتُثبِتُ ما لا وجود له.
ثم جاء بعدهم آخرون كحِمران بن أبان ليُدير المعركة بالحِيَل والوضع والمكر والخديعة والتخطيط الماكر، وكذلك سيف بن عمر التميميّ الكذّاب، الذي اخترع عددًا كبيرًا من الصحابة والرواة والأحداث، وسنُفصِّل أمرَه في مقالٍ خاص.
اليوم، ومع توفّر الإمكانات البحثية، والقدرة على المقارنة من مصادر الأمّة كلّها، وظهور علومٍ جديدة تساعد على النقد والتمحيص. إضافةً إلى القدرات التي يمنحها الذكاء الاصطناعي في تجميع البيانات وتحليلها، ومع حالة الوعي المنتشرة بين الشباب؛ فإنّ كلَّ ذلك يدلّ على أن اللحظة قد حانت لتنقية حديث رسول الله ﷺ.
ونقول بكل تجرد: ليس كل ما في البخاري ومسلم وكتب الحديث والسيرة صحيحًا؛ بل يستحقُّ النظرَ والغربلة؛ إذ قد يقرُّ الشيخان بصحّة حديثٍ من حيث الإسناد، لكنّ البحثَ في المتن قد يُفضي إلى ردِّه لأنه مدسوسٌ لغرضٍ سياسيّ أو غيره.
فالكذب على رسول الله كان يتم أثناء حياته وقد حذر منه وفي تحذيره إشارة إلى وعيه بأن ذلك سيكون بعده أيضا، وهو ما نفهمه من هذا الحديث: ٢ – لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النّارَ.
الراوي: علي بن أبي طالب • البخاري، صحيح البخاري (١٠٦) • [صحيح]
وليس عملنا مشابها لما يروّج له القرآنيون لإنكار السنة كلها، ولا هو رازح تحت ما يصرّح المحدثون الأثريون بأنّ كلَّ ما في «الصحيحين» هو الحق من فم رسول الله، وأن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، أو أن السنة تنسخ القرآن! مر
وسنخصّص في المرحلة القادمة عددًا من المقالات والمحاضرات حول هذا الموضوع بالحُجّة والهدوء، وندعو أهلَ الاختصاص إلى مناقشتِه بعلمٍ ورويّة. وننوّه أنّ عملَنا ليس لهدمِ السنة ولا لمهاجمة مذهبٍ دون آخر، ولا لنصرة التشيّع ضدَّ أهل السنة مثلا؛ ولا لنصرة السنة ضد الشيعة أيضا فلسنا نبالي إلا بالحق ننصره حيث وجدناه، ولا نحارب إلا الباطل نفضحه حيث وجدناه.
فليس المذهب عندنا أعظمَ من المحمّدية البيضاء، التي ندعو إليها، ونؤمن بها.