3 دقائق للقراءة
في مَسيرتي وسَيـري إلى اللهِ باللهِ، والطريقِ الوعرِ الطويلِ الذي سَلَكتُه في المعرفةِ والبحثِ والتأليف، آليتُ إلّا أن أكونَ مع الحقّ، أَسعى إليه وأبحثُ عنه، بالبصرِ الذي تُوجّهه البصيرةُ، والعقلِ الذي يُنيره القلبُ، والفكرِ الذي تُسنده الروحُ، مُدقِّقًا مُحقِّقًا، مُستقصِيًا للحقائق، مَيّالًا للدليل، قاطِعًا بالبُرهان، مُثبِتًا بالحجة، مُستَنِدًا إلى المنطق، في النظرِ والتمحيص، والتأليفِ والطرح.
ولم أقل لأحدٍ أنّي أملكُ ناصيةَ الحقّ، وأحتكرُ الحقيقة، بل هي مُقاربات ومحاولات وطروحات، شغلت من عمري مُعظمَه، ومن جهدي أعظَمَه…
ولكنّي على يقينٍ أنّي أعرفُ أين الحقّ ومع مَن، ومَعرِفتي تلك قادتني نحو كلّ حقيقةٍ عرفتُها، وأهدت إليّ فَهمًا وذَوقًا، ما كان ليكونَ منه شيءٌ لولا أنّي عرفتُ ذلك الحقّ وأصحابَه.
والحقّ عندي لا يخرجُ عن ثلاثِ دوائرَ موصولٍ بعضُها ببعض:
دائرةِ الحقِّ الأعظمِ سبحانه وتعالى.
فهو الحقّ، ومظهرُ الحقّ، والهادي إلى الحقّ.
وكلّ ما تعارضَ مع ثابتِ الوجود، وبراهينِ الشهود، وتنزيهِ المعبود، فليس فيه حقّ، بل باطلٌ يدمغُه الحقّ.
ودائرةِ المبعوثِ بالحقّ، الناطقِ بالحقّ، ناصرِ الحقِّ بالحقّ، وهو بالاتباعِ أحقّ.
وضمنَ دائرتِه كلُّ نبيٍّ، ووليٍّ وتقيّ، من إنسٍ ومن جنّ، ومن غير ذلك ممّن هو به حَفيّ.
وكلُّ مَلَكٍ صَفيّ، وملاكٍ زكيّ، وروحٍ خفيّ.
ودائرةِ مَن هو مع الحقّ، يدورُ معه حيث دار، والحقُّ معه، لا يُفارقه، فهما صِنوانِ لا ينفصلان، فهو الإمامُ بحقٍّ، والوصيُّ بحقٍّ، ولا أحدَ منه بذلك أحقّ.
وضمنَ دائرتِه كلُّ آلِ البيت، والصالحين، والعارفين، وأهلِ الله أجمعين.
ولا يُعرَفُ الحقُّ الأعظمُ الأحديّ إلّا بالحقِّ المُلهَمِ المحمّديّ، ولا يُدرَكُ الحقُّ المحمّديّ، إلّا من بابِ المدينة، وشراعِ السفينة: الإمامِ عليّ.
وكلُّ علمٍ أو أمرٍ، أراه من هذه الدوائر، فاللهُ يهدي القلبَ ويُنيرُ العقل، ويُعلّم الإنسانَ ما لم يَعلم.
والحبيبُ الأعظمُ قاسِمُ العطاء، وسرُّ كشفِ الغطاء، روحُه سَنَد، ونورُه مَدَد، ولا يصلُ إلى اللهِ دونَه أحد.
وآلُ البيتِ سفينةُ النجاة، وشراعُها أبو تُراب، حاملُ الباب، ومُخترِقُ الحجاب، وكاسرُ شوكةِ الأحزاب.
وبين القرآنِ المسطور، والقرآنِ الحيِّ في الصدور، صِلةٌ لا تنفصل، وعُروةٌ لا تنفصم.
وقد قال الحبيبُ أنّه تاركٌ فينا الثقلين، ما إن تَمَسّكْنا بهما لن نضِلّ أبدًا: كتابَ الله، وعِترتَه أهلَ بيتِه، لا ينفصلان أبدًا.
ألا وإنّي قد بلّغتُ ما وَقَر في قلبي، وثَبَت في لُبّي، فلم أكتمْ منه شيئًا، رغم شَنَآنِ قوم، وازورارِ قوم، وامتعاضِ جمع، وتبرّمِ بعض، وشتمِ شِرذِمة، وحقدِ عصبة، وافتِراءِ ثُلّة، وثباتِ قِلّة.
ولستُ، واللهِ، بناكِصٍ على عَقِب، أو فَرّارٍ من زَحف، أو ناكِثٍ لعهد، أو مُرتدٍّ عن أمر، أو مُؤثِرٍ سلامةَ الباطل، عن مُكابدةِ الحقّ، أو لذّةَ الوَهم، عن وجعِ الحقيقة.
وما أنا بهَيّابٍ ولا مُرتاب، أو مُبدٍ غيرَ ما أُبطن، ومُخفٍ عكسَ ما أُعلن.
كما أنّي لا أركَنُ لطائفيّة، ولا أذعَنُ لحَمِيّةِ تعصّب، ولا يصدّني مذهب، أو طريقة، أو معتقد، عن نقدٍ على بيّنة، ونظرٍ على رويّة، وبحثٍ على سِعة، وغوصٍ عن دراية.
فما ثبتَ لي أنّه حقٌّ ملتُّ إليه ووقفتُ معه، وما ثبتَ لي أنّه باطلٌ تركتُه.
لذلك جمعتُ ما بدا عند غيري شَتاتًا، وألّفتُ بين ما ظهر لسِواي مُختلفًا.
ولا أقولُ لأحد: اتّبعني، ولكن أقولُ لكلّ أحد: اسمعني، فقد قال الحبيبُ الأكرم: “المَرءُ مَخبُوءٌ تحتَ أَصغَرَيْهِ: قلبِه ولسانِه”، وقال وصيُّه: “تكلّمْ كي نعرِفَك”.
فإن سمعتَني فأصِخِ السمع، ودَقّق في الأمر، فإن وجدتَني على حقّ، فأنصِفِ الحقَّ الذي وجدتَني عليه.
وإن حَسِبتَني على باطل، فجادِلني بحُسنى، وناقِشني بعِلم، وناظِرني بحجّة، وأيمُ اللهِ لو وجدتُ الحقَّ معك لتركْتُ ما معي واتّبعتُك.
أمّا المُتَنطّعون والمُرجِفون، الذين ضاقت صدورُهم، وصغُرَت عقولُهم، وكلّت أفهامُهم، وغلبت أوهامُهم، ومَرِضت قلوبُهم، ونقمت نفوسُهم، وفسدت طباعُهم، وانخفضت حُجّتُهم، فارتفعت أصواتُهم، تَعلو نَعيقًا، وتُزبِدُ زَعيقًا، كَالطَّبلِ الأجوف؛ فأولئك ينطبق عليهم قولُ الآخر (١):
لا عيبَ بالقَومِ مِن طولٍ ولا عِظَمٍ
جُسمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
كأنّهم قَصَبٌ جوفٌ مُكاسِرُهُ
مُثَقَّبٌ فيه أرواحُ الأعاصيرِ
فسلامٌ على أُولي النُّهى، وسلامٌ على سِدرةِ المُنتَهى، وسلامٌ على مَن عرفَ الحقَّ فانتهى.
(١) حسان بن ثابت.