2 دقائق للقراءة
بَعْدَ لَيْلَةٍ كُنْتُ فِيهَا أَمْتَطِي صَهْوَةَ الأَلَمِ فَوْقَ تُرْبَةِ وَجَعٍ مُتَوَحِّشٍ قَاحِلٍ مُقْفِرٍ مُجْدِبٍ، لَا نَبْتَ فِيهِ سِوَى شَوْكِ المُعَانَاةِ، وَبَعْدَ أَنْ وَقَفْتُ عَلَى قِمَّةٍ ذَاتِ قَتَادٍ وَحَسَكٍ، وَجَمْرٍ وَلَظًى، وَكَتَبْتُ مَا كَتَبْتُ وَأَنَا فِي ذَلِكَ الحَالِ، بَلَغَتْ كَلِمَاتِي مِنَ النَّاسِ مَسْمَعًا، وَأَفَاضَتْ مَدْمَعًا، وَحَيَّرَتْ لَوَاعِجَ وَمُهَجًا، بِمَا جَدَّ وَدَرَجَ.
لَكِنَّ الأَمَلَ غَضِبَ مِنْ مَقَالِي، وَلَمْ يَرُقْ لَهُ حَالِي، وَكَتَبَ إِلَيَّ مُعَاتِبًا، وَرَاسَلَنِي مُكَاتِبًا، وقَالَ لِي مُخَاطِبًا:
“ذَكَرْتَ شَقِيقِي فَأَطَلْتَ، وَنَسَبْتَ إِلَيْهِ العِلْمَ وَالحِكْمَةَ، وَخَيْرًا فَعَلْتَ، لَكِنَّكَ جَعَلْتَنِي خَلْفَهُ لَا أَمَامَهُ، وَنَزَعْتَ عَنِّي مَا كُنْتُ سَنَامَهُ، وَمَا جَعَلَنِي الحَقُّ إِمَامَهُ.
فَإِنْ كَانَ الأَلَمُ يُعَلِّمُ بِالوَجَعِ، وَيُعْطِي لِلْحَيَاةِ مَعْنًى آخَرَ، يُجْلِيهِ الصَّبْرُ، وَتُجَلِّيهِ العَزِيمَةُ، فَإِنِّي ابْتِسَامَةُ المُحَارِبِ بَعْدَ أَنْ يَخْتَرِقَ جَسَدَهُ أَلْفُ سَهْمٍ، وَابْتِسَامَةُ العَاشِقِ بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَ كَفُّهُ كَفَّ مَنْ يُحِبُّ، وَابْتِسَامَةُ الأُمِّ بَعْدَ مَخَاضِ الوِلادَةِ، وَابْتِسَامَةُ الشَّهِيدِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَى رَبَّهُ، أَنَا رُوحٌ مِنَ اللهِ تَسْرِي فِي الكَائِنَاتِ، وَمَا يُمَزِّقُهُ الأَلَمُ، يَرْتُقُهُ الأَمَلُ”.
وَقَدْ صَدَقَ صَاحِبِي فِي مَقَالَتِهِ، وَأَخْلَصَ فِي رِسَالَتِهِ، لِأَنَّكَ حِينَ تَصْعَدُ قِمَّةَ جَبَلِ الأَلَمِ، سَتَجِدُ سَفْحَ جَبَلِ الأَمَلِ، الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِمَدَاهُ، وَلَا مُنْتَهَى لِرُؤَاهُ، فَهُوَ مُطْلَقُ المُطْلَقِ، لِأَنَّ الأَمَلَ مَوْصُولٌ بِوَاهِبِهِ، مُتَّصِلٌ بِصَاحِبِهِ، وَثِيقُ صِلَةٍ بِمَوْلَاهُ، فَهُوَ نَفْحَةُ اللهِ الَّتِي يُلْقِيهَا فِي خَلْقِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ جَمِيلِ رَحْمَتِهِ وَعَظِيمِ رِزْقِهِ.
وَمَنْ رُزِقَ الأَمَلَ، وَأَصْلَحَ العَمَلَ، كَانَ مِنَ الفَائِزِينَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
عِنْدَمَا بِتُّ لَيْلِي فِي كَرْبِ الوَجَعِ وَشِدَّةِ الأَلَمِ، هَجَمَ عَلَيَّ الكَرَى فَجْأَةً بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ الجِسْمُ مُنْتَهَى قُدْرَتِهِ، وَهُنَالِكَ عَلَى مُخْمَلِ الحُلْمِ، فَوْقَ غَيْمَةِ الرُّوحِ، عَانَقَنِي الأَمَلُ مُبْتَسِمًا، وَهُوَ يَقُولُ لِي: إِنْ كَانَ الأَلَمُ خِضْرَ الدُّنْيَا، فَأَنَا خِضْرُ الآخِرَةِ الَّذِي جَاءَ مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ.
وَعِنْدَمَا أَشْرَقَتْ تِلْكَ الشَّمْسُ العَنِيدَةُ مُجَدَّدًا، أَشْرَقَ فِي رُوحِي ذَلِكَ العَزْمُ الَّذِي مَا زِلْتُ أَذْكُرُهُ بَعْدَ لَيْلَةٍ كُنْتُ فِيهَا عَلَى مَشَارِفِ البَرْزَخِ، وَأَيْقَنْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ أَنِّي مُدْرِكُهُ لَا مَحَالَةَ، حَتَّى أَدْرَكَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ، وَتَدَارَكَنِي بِعَفْوِهِ.
ذَاتُ الشُّعْلَةِ لَمْ تَنْطَفِئْ، مَنَحَتْنِي عَزِيمَةً فِي أَيَّامِ عُسْرٍ تَبَاعَدَ عَنْهَا اليُسْرُ، حَتَّى أَتَى اليُسْرُ الَّذِي يُنَاوِشُهُ بَعْضُ العُسْرِ.
وَتِلْكَ لَعَمْرِي سُنَّةُ الأَيَّامِ، وَحِكْمَةُ الأَعْوَامِ.
فَطُوبَى لِمَنْ وَجَدَ الأَمَلَ، وَلَمْ يُضَيِّعِ العَمَلَ، وَلَا أَلْقَى بِهِ أَلَمَهُ، حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ القَدَرُ وَقَلَمُهُ.