3 دقائق للقراءة
#في_أسوار_قرطبة
مُعارَضةٌ لِرائِعَةِ ابنِ زَيدون (١) الخالِدَة «أضحى التَنائي» الّتي تُعتَبَرُ مِن أَروَعِ ما قِيلَ في الغَزَلِ، بَل كانَت أَفضَلَ غزلية في رُبوع الأَندَلُس..
وقد كَتَبَها لِوَلّادةَ بِنْتِ الخَليفَةِ المُستَكفِي. وكانَ بَينَهُما وُدٌّ ثُمَّ انفَصَم. وقد كانَت أَميرَةً وشاعِرَةً كَبيرَةً وعالِمَةً بِالأَدَبِ ولَها مَجلِسٌ مَشهودٌ في قُرطُبَة.
وقد صُغتُ الكَلامَ مِن حالِهِ الَّذي وَصَلَني في كَلِماتِهِ الحَزينَةِ والجَميلَةِ والصّادِقَةِ، مُفتَتِحًا وخاتِمًا بِشِعرِهِ مَعَ تَضميناتٍ أُخرى. وجعلت النظم يراعي خصائص الوصف الأندلسي الذي ركز على الروض والزهر والمظاهر الحضارية التي لا نجدها في الشعر المشرقي لاختلاف البيئة وظروف العيش، مع بعض اشارة للأصل الأول.
—
“أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طِيبِ لُقيانا تَجافينا”
وَحَيَّرَ الوَردَ ما أَبداهُ حاضِرُنا
وَحَنَّنَ الزَّهرَ ما أَخفاهُ ماضِينا
والرَّوضُ في رَوضَةِ التَّهيامِ حَنَّ إِلى
ذاكَ الزَّمانِ فَقامَ اللَّيلُ يَبكينا
والطَّيرُ تَشتاقُ وَالشَّحرورُ باتَ بِلا
شَدوٍ يُؤَدّيهِ عَـلَّ الشَّدوَ يَشفينا
هذي البَساتينُ مِن بَعدِ النَّوى وَبِها
حُزنٌ عَلى الوِدِّ ما عادَت بَساتينا
وصاحِبُ الدَّهرِ مَصحوبٌ بِحالَتِهِ
كَم غَيَّرَ الحالَ دَهرٌ صارَ يَقصينا
وزارِعُ الشَّوكِ مَترُوكٌ لِغايتِهِ
وزارِعُ الوَردِ لَم يَزرَع بِوادينا
وَراكِبُ الخَيلِ لَم يَركَب لِيَجمَعَنا
وَخُطوَةُ الصَّبرِ لَم تَعبُر بَِوادينا
“فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا
وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا”
يا لَيتَ مَن نَسَجَت في الرُّوحِ مُقلَتُها
تَهَبُ اللِّقاءَ فَهذا البُعدُ يُبلينا
يا حارِسَ القَصرِ في أَسوارِ قُرطُبَةٍ
ذي الشَّمسِ في القَصرِ خَلفَ الخَدرِ تُسبينا
أَشهَدتُكَ اللهَ إِلّا أَن تَقولَ لَها
ذا مَيِّتُ الهَجرِ مَصلوبٌ بِنادينا
“وَيا نَسيمَ الصَبا بَلِّغ تَحِيَّتَنا
مَن لَو عَلى البُعدِ حَيَّى كانَ يُحْيِينا”
أَيّامُ كُنّا وَكانَ اللَّيلُ يَحسُدُنا
وَالكاشِحينَ مَطاريحًا مَساكينا
كُنّا لَدَى العَقلِ أَسيادًا لِحِكمَتِهِ
صِرنا مَعَ الوَجدِ عُشّاقًا مَجانينا
إِنّي أُحِبُّ نَقيَّ الخَدِّ طَيِّبَهُ
وَالجِيدَ آنِيَةَ البَلوُرِ تَكوينا
والقَدُّ مَيّاسٌ لَيسَ الغُصنُ يُشبِهُهُ
يَرقى عَلى الغُصنِ تَنعيمًا وَتَليينا
بَدرٌ لَدَى الوَجهِ باتَ اللَّيلُ يَحضُنُهُ
لَيلٌ لَدَى الشَّعرِ أَبكى البَدرَ تَـمكينا
إِن تُبصِرِ الكَفَّ كَفَّ الفِكرِ عَن فِكَرٍ
وَغابَ في مِعصَمٍ أَعياهُ تَزيينا
مَن في تَدانيهِ وَالجُدرانُ تَستُرُهُ
أَبدى لَنا اللُّطفَ وَالتَّحنانَ وَاللِّينا
“رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ
مِسكًا وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا”
فَالطَّرفُ ما زالَ مَطروفًا بِرُؤيَتِهِ
لا غَيرَ طَلعَتِهِ الحَسناءِ يُرضينا
أَنوحُ نَوحَ حَمامِ الأَيكِ مُذ بَعُدَت
مِنّا الأَكُفُّ فَلا جاءَت وَلا جينا
أَناملٌ عَقَدَت عَقدًا تَبَرَّ بِهِ
حينًا تُشِدُّ وَيُرخيها الجَوى حينَا
يا ذا النَّعيمِ الَّذي كُنّا بَوارِقَهُ
فَوقَ النَّمارِقِ باتَ السَّعدُ يَسقينا
وَيا جِنانَ خُلُودٍ كَم مَكَثنا بِها
في سِدرَةِ السِّترِ تُخفينا وَتُبدينا
“يا رَوضَةً طالَما أَجنَت لَواحِظَنا
وَردًا جَلاهُ الصِّبا غَضًّا وَنَسرينا”
وَيا مِزاجَ شَرابٍ في حَلاوَتِهِ
رَحيقُهُ الشَّهدُ مَختومٌ رِياحينا
للهِ ما فَعَلَت تِلكَ الظُّنونُ، فَما
قَد أَحسَنَ الظَّنَّ مَن فَصمَ العُرى فينا
وَيحَ الحَسودِ وَقَد آذاهُ مَوعِدُنا
كَم باتَ يَحسُدُنا قَلبٌ يُعادينا
“سِرّانِ في خاطِرِ الظَلماءِ يَكتُمُنا
حَتّى يَكادَ لِسانُ الصُبحِ يُفشينا”
قُل لِلَّتي أَرسَلَت لِلغَيمِ دَمعَتَها
ما أَمطَرَ الغَيمُ إِلّا مِن مآقينا
“دومي عَلى العَهدِ ما دُمنا مُحافِظَةً
فَالحُرُّ مَن دانَ إِنصافًا كَما دينا”
مِنّا إِلَيكِ وَإِن أَخلَفْتِ غادِيَةٌ
تَغدو إِلَيكِ بِحَرفِ الشِّعرِ تَدوينا
تُحكي لِوَلّادةٍ عَن حالِ عاشِقِها
ما باحَ بِالاِسمِ بَل قَد قالَ تَبيينا
“لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً
وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا”
فَأَنتِ في مُطلَقِ الأَزمانِ قاسِيَةٌ
لِلعَهدِ ناسيَةٌ بِالعِشقِ تُشقينا
وَأَنتِ في هَمسَةِ الأَحلامِ ناعِمَةٌ
حَسناءُ وَضّاءَةُ الخَدَّينِ تُسبينا
وَأَنتِ أَنتِ كَما قَد صاغَكِ قَلَمٌ
في حِبرِهِ الوَجدُ بِالآهاتِ يُضنينا
“عَلَيكِ مِنّا سَلامُ اللَهِ ما بَقِيَت
صَبابَةٌ بِكِ نُخفيها فَتَخفينا”
—
(١) (٣٩٤ هـ / ١٠٠٣ م – ٤٦٣ هـ / ١٠٧١ م) أَحمَدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ أَحمَدَ بنِ غالِبٍ ابنِ زَيدون، المَخزوميُّ الأَندَلُسيُّ، أَبو الوَلِيد. شاعرٌ أَندَلُسيٌّ كَبيرٌ وَوَزيرٌ بارِعٌ، وُلدَ في قُرطُبَةَ وَنَشَأَ في بَيتِ عِلمٍ وَوَجاهَة. بَرَزَ في مَيدانِ الشِّعرِ وَالنَّثرِ حَتّى لُقِّبَ بِـ”بُحتُريِّ المَغرِب”، وَتَصَدَّرَ المَشهَدَ الأَدَبيَّ في عَصرِهِ.
سوسة – 28 سِبتَمبر 2025 – 02:40
—