عقيدة الانتظار والحرب الكبرى

8 دقائق للقراءة

قلت في آخر حوار إعلامي، أن الحرب بين إيران وإسرائيل هي حرب بين عقيدتين: عقيدة الانتظار الأول، وعقيدة الانتظار الثاني.

ولفهم هذا المعطى لابد أن نلم بالأبعاد العقائدية لهذه الحرب، وهي أبعاد عميقة مؤثرة على الذهنية الأمريكية والإسرائيلية ولها انتشار واسع في الغرب، كعقيدة انتظار اول، وكذلك لها تأثير عميق على السياسة الإيرانية ومحور المقاومة، وكان لها أثر عميق على الأمة الإسلامية وتاريخها عبر استخدام عقيدة الانتظار أو ادعاء تحققه، فقد كان ذلك سبب قيام الدولة العباسية والدولة الفاطمية، وأساسا لثورة الإمام الخميني.

لقد خصصت دروسا ومحاضرات كثيرة، ودونت منذ عام 2006 في موسوعة البرهان، عن القضية المهدوية، كعقيدة انتظار لها أساس قرآني، وأساس نبوي، وأسس أخرى تتعلق بكلام أئمة آل البيت والصالحين والإشارات الكثيرة لحتمية ظهور مصلح من ذرية السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام يكنى بالمهدي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.

وهذا الكلام العقائدي لم تختلف الأمة الإسلامية قط حوله شيعة وسنة، إنما الاختلاف جاء من بابين: باب اختلاف بين النظرة الاثناعشرية التي اعتبرت أن الإمام المهدي ولد وهو محمد بن الامام العسكري. في حين تعتبر المدرسة السنية والصوفية خاصة أنه سيولد زمن ظهوره، وهو ما أذهب إليه.

وباب زرع فكر حشوي سواء ادعى الثقافة والمعاصرة وتحرير الفكر، أو كان سلفيا وهابيا، وكلاهما ينكر أحاديث المهدي، رغم أن عددا من مشاهير مشايخ السلفية الوهابية قد تكلموا عن حتمية الظهور وخصصوا محاضرات كثيرة في الآونة الأخيرة، ربما لأن الموضوع أصبح جاذبا للانتباه ومادة مهمة لجلب المتابعين.

وكثر المدعون أن لهم علما بما سمي: علم آخر الزمان. وادعى الكثيرون أنهم المهدي أو نواب عنه مثل الذي ادعى المهدوية في اليمن أو في بريطانيا أو المدعي الآخر في العراق الذي يقول أنه ابن الامام وأنه التقاه، وكذلك الكثير من الأدعياء في التصوف ادعوا أنهم هو ولو بالاشارة كقول بعضهم أنه هو الختم وقطب آخر الزمان.

كل هذا ينتمي في اعتقادي إلى عقيدة الانتظار الثاني. أما الانتظار الأول فهو أقدم زمنا، إذ يرجع لما بعد رفع السيد المسيح وإعلانه أنه سيرجع في آخر الزمان، حين تحل حرب القيامة، وحين تظهر الآيات الكبرى، وهو ما يشابه أحاديث الملاحم في السنة النبوية رغم وجود وضع كبير فيها، ولكنها كانت مؤثرة بعمق حتى في قيام داعش وتدمير سوريا.

عقيدة الانتظار الاول تم تطويرها من قبل الصهاينة، وأـثرت بعمق على الصهيونية والصهيونية المسيحية الداعمة لها، بل هي جوهر أرض الميعاد وإسرائيل الكبرى، وجوهر الاقدام على استعمار فلسطين والاستيطان فيها، والقيام بالمجازر منذ سنة 48 إلى الآن، بل وأساس قوة المجازر في غزة حاليا، والحرب على إيران.

وحتى لا يتداخل الاعتقاد الذاتي مع التحليل الموضوعي، فإني أحيل إلى ثلاثة مصادر مهمة، من كندا وأمريكا وروسيا، تثبت كلها أن الأمر يتعلق بجانب عقائدي وبمؤامرة حقيقية لها من خطط لها ومن ينفذها بدقة. وأن من يحلل دون فهم هذه الأبعاد وينسب الأمر فقط إلى أمور استراتيجية محضة أو سياسية واقتصادية هو مجانب للصواب تماما وضيق أفق.

المصدر الأول كتاب طالما شغل الناس، وأثر في الكثير من الكتاب المناهضين للصهيونية العالمية.

وهو الكتاب الأشهر: أحجار على رقعة الشطرنج Pawns in the Game  لويليام غاي كار – William Guy Carr (1895 – 1959)،  ضابط بحري كندي، وكاتب اشتهر بنظرياته حول المؤامرات العالمية. والذي تم نشره لأول مرة باللغة الإنجليزية عام 1955.

ويُعتبر من أوائل الكتب التي صاغت “النظرية الكبرى للمؤامرة”، ويدور حول فكرة أن هناك قوة خفية تحرك العالم، تستخدم الأمم والشعوب كأحجار شطرنج لتحقيق أهدافها.

ويبين كار كيف أن “النورانيين” (Illuminati) وحلفاءهم من الماسونية والصهيونية يقودون مؤامرة عالمية للسيطرة على العالم.

وأن هذه القوة خططت للحروب الكبرى، الثورات، والأزمات الاقتصادية.

كما أن هذه القوة المسيطرة على العالم بشكل خفي خططت لثلاث حروب عالمية: الأولى: لإسقاط الإمبراطوريات القديمة.

الثانية: لتمكين الشيوعية والتمهيد لإسرائيل.

الثالثة: لنشوب صراع عالمي بين الصهيونية السياسية والإسلام.

ويقول في كتابه:  “الشعوب لا تدرك أنها تُقاد كما تُقاد قطع الشطرنج في رقعة رسمها المخططون في الظلام.”

 “كل الحروب الكبرى في التاريخ الحديث لم تكن مصادفة، بل هي جزء من خطة محكمة وضعت منذ قرون.”

 “الهدف النهائي: حكومة عالمية واحدة، تسيطر على المال والسياسة والدين.”

*يُعد من الكتب المؤسسة لفكر “نظرية المؤامرة العالمية”.

*أثر في عدد كبير من الكتّاب والمفكرين لاحقًا.

*رغم أن كثيرًا من المؤرخين شككوا في دقة معلوماته، إلا أن الكتاب ظل مؤثرًا في التيارات المناهضة للعولمة والصهيونية والماسونية.

هذا الكتاب يستحق الدارسة والتمحيص، لأن ما تم التعامل معه بسخرية من قبل، كموضوع السفن الفضائية والمؤامرة العالمية، يتم التيقن منه الآن، وينكشف أن الساخرين والمنكرين هم جزء من المؤامرة نفسها، بوعي أو ببرمجة وعي.

المصدر الثاني كتاب شهير صدر سنة 1989، ولعله يعتبر إثباتا حقيقيا لما ذهب إليه وليام غاي كار، بل وامتدادا له تأثرا وتفاعلا وبرهنة،  وهو كتاب النبوءة والسياسة (Prophecy and Politics) لغريس هالسل (Grace Halsell)، وهي صحفية وكاتبة أمريكية (1923-2000) عرفت بجرأتها في فضح السياسات الأمريكية واهتمامها بالقضايا الإنسانية والشرق الأوسط، بعد أن عملت في البيت الأبيض وأمكن لها الاطلاع بشكل مباشر كما زارت إسرائيل وتيقنت من معطياتها التي نشرتها في كتابها.

وقد تمت ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية بعد عامين، وأنجز الترجمة الدكتور محمد السماك.

يدرس الكتاب العلاقة الوثيقة بين التيارات الدينية المسيحية الأصولية (الإنجيليون الصهاينة) في الولايات المتحدة وبين إسرائيل، وتأثير ذلك على سياسة أمريكا الخارجية، خاصة في الشرق الأوسط. ويُعد من أوائل الكتب التي فضحت العلاقة بين الصهيونية المسيحية والسياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخصوصًا في ما يتعلق بدعم إسرائيل.

ومن أبرز محاوره وافكاره: *المسيحية الصهيونية (Christian Zionism) يكشف كيف تؤمن طائفة من المسيحيين الإنجيليين في أميركا بأن قيام إسرائيل شرط مسبق لعودة المسيح ووقوع معركة “هرمجدون”.

هؤلاء يرون في دعم إسرائيل واجبًا دينيًا، وليس مجرد موقف سياسي.

* النفوذ داخل الإدارة الأميركية: تسلط هالسل الضوء على كيفية تأثير المتدينين المتطرفين على صانعي القرار في البيت الأبيض، خاصة في عهد ريغان وجورج بوش الابن الذي كان يقوم بقداس كل صباح في مكتبه بالبيت الأبيض.

* الدعم غير المشروط لإسرائيل: يبين الكتاب كيف أن هذه العقائد تؤدي إلى دعم مطلق للسياسات الإسرائيلية حتى لو كانت متعارضة مع السلام أو المصالح الأمريكية.

*الدور السياسي للكنائس: حللت غريس هالسل كيف دخلت الكنائس الإنجيليّة بقوة في السياسة، وضغطت على الإدارات الأمريكية لتبني سياسات منحازة لإسرائيل.

تذكر بالتحديد أسماء قساوسة ومؤثرين مثل جيري فالويل، وهال ليندسي، وبات روبرتسون.

*الخطر النووي والخراب العالمي: تُحذر من أن هذه النبوءات اللاهوتية تُستخدم لتبرير حرب عالمية في الشرق الأوسط قد تقود إلى كارثة نووية.

*وتشير إلى أن من يؤمنون بـ”الاختطاف المقدس” (Rapture) لا يخشون من دمار العالم لأنهم يعتقدون أنهم سيُرفعون إلى السماء قبل ذلك.

ترى هالسل أن هذه العقائد تشكل تهديدًا لأنها تدفع نحو إشعال حرب عالمية على أساس ديني لتتحقق النبوءة.

 *نقد اللامبالاة تجاه العرب والفلسطينيين: توضح كيف يتم تشييء الفلسطينيين والعرب وتحويلهم إلى مجرد أدوات في نبوءة دينية.

وتنتقد الانحياز الكامل لإسرائيل من منطلق ديني، لا سياسي فقط.

ومن بين الاقتباسات المهمة من كتاب النبوءة السياسية:

«ما يدفع الإنجيليين لدعم إسرائيل ليس حب اليهود، بل انتظار معركة هرمجدون، حيث يؤمنون بأن اليهود الذين لا يتحولون إلى المسيحية سيبادون».

«المساعدات الأمريكية لإسرائيل ليست فقط لدوافع استراتيجية، بل بسبب عقيدة دينية تؤمن بعودة المسيح بعد خراب شامل في الشرق الأوسط».

 «السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ترسمها جماعات دينية متعصبة تؤمن بنهاية قريبة للعالم».

“إنهم لا يحبون إسرائيل من أجل إسرائيل، بل من أجل نهاية إسرائيل، لأن في نهاية إسرائيل سيعود المسيح.”

“كلما زادت الحروب والنكبات في الشرق الأوسط، فرحوا لأنهم يرون في ذلك إشارات على اقتراب النهاية.”

“تجري السياسة الخارجية الأميركية كما لو أن نبوءات العهد القديم صارت هي الدستور الفعلي للولايات المتحدة.”

الصحفية الامريكية غريس هالسل كانت شجاعة في خوض هذا الموضوع رغم معرفتها بالمخاطر، وكانت أول من أدان “التحالف الديني – السياسي” الأميركي الإسرائيلي من الداخل.

 *يُعتبر «النبوءة والسياسة» من أوائل الكتب التي كشفت للعالم العربي والغربي حجم تأثير العقائد الدينية الإنجيلية المتطرفة على السياسة الأمريكية.

*فضح الكتاب كيف يتم تسخير الدين لتبرير الاحتلال والحروب.

* ظل مرجعًا هامًا لفهم العلاقة بين الدين والسياسة في أمريكا.

إن هذا الكتاب بما يحتويه، يجب أن تتم دراسته وفق منظور الأمن القومي والاستشراف، لأنه وبكل بساطة يتحقق بالحرف، وما الحرب الإيرانية الإسرائيلية اليوم إلا خطوة متقدمة جدا من هذا المشروع الذي كشفت عنه بروتوكلات حكماء صهيون، وتكلم عنه أحرار من أهل الفكر تم تصفية عدد كبير منهم أو السخرية والاستهزاء بهم وهرسلتهم ومحاصرتهم، وهي نفس الأيدي التي حركت حملات السخرية والتكذيب التي تشن علي بين فينة وأخرى.

أما المصدر الثالث فهوالفيلسوف الكبير والموسوعي الدكتور ألكسندر دوغين الملقب بعقل بوتين، وبفيلسوف القومية الروسية المحافظة.

دوغين طالما تكلم عن المؤامرة الصهيونية وفكك أبعادها، بل وتحدث عن أمور عقائدية دقيقة تدل على اطلاعه على الفكر الصهيوني وعلى العقيدة الإسلامية، وله تأثير مباشر على سياسات بوتين واستراتيجياته العسكرية.

ودليل كلامي حوار مهم أجراه دوغين، ومن الاقتباسات التي وردت فيه: لا يجب أن يغيب عن بال المرء البعد الأخروي، علم آخر الزمان للأحداث.

من الواضح أن أولئك الذين يتجاهلون علم الامور الاخيرة، علامات الآخرة، لن يفهموا أي شيء في السياسة الكبيرة الحديثة، وليس فقط في الشرق الأوسط، رغم أن هذا الامر أكثر وضوحا هناك”.

ويضيف أن التحليل السياسي الاقتصادي المحض دون هذه العوامل تحليل سطحي. كما يتكلم بوضوح عن عقيدة المهدي المنتظر مقابل عقيدة المسيح المنتظر عند اليهود، وكيف ان نتنياهو يتقمص دور المسيح أو المشياخ ويرى أنه مكلف من الرب بذلك، وأن الصهاينة قد يهدمون المسجد الأقصى ويدعون أن إيران فعلت ذلك بصاروخ تاه عن مساره، وغيرها من المعطيات في الفيديو المرفق، والحلقة تم نشرها وفيها معطيات مهمة، كما يمكن الرجوع لتصريحات وحوارات دوغين لمزيد الفهم.

الخلاصة هنا أن ما ذهبت إليه منذ أعوام تحليلا واستشرافا لم ينبع من فراغ، بل من اطلاع دقيق، وتأمل طويل، وأن لدي ما أفوق به من اشتغل معي على هذه القضايا، بحكم أني وسعت الدوائر المعرفية أكثر ثم سلكت في التحليل والبيان ما فاق من سبق وأعجز من لحق.

إنها حرب القيامة فعلا، وخلفها حرب عالمية ثالثة، والكل مستهدف، وحتى من يتعاون مع الصهاينة لن يسلم من حربهم، بشتى وسائلها، لا العرب ولا الغرب ولا أمريكا نفسها، ولن يبالي مجانين العقيدة التلمودية بمعاناة شعبهم ولا بمأساة أهل غزة بل سيمعنون في الحرب ويمضون نحو الخراب لحرق الكوكب كله منتظرين لحظة الاختطاف المقدس ليشاهدوا مع المسيح احتراق المجرمين في أرض الآثمين.

وكم هو ملفت قول دوغين: إن الصواريخ الإيرانية اليوم تمر فوق الحقل الذي ستتم فيه الملحمة، هرمجدون، إن النبوءات تتحقق.

وعلى صعيد آخر، نحن كأمة ما دورنا، وهل هنالك ما يبرر اعتقاد الإيرانيين أن هذه الحرب هي بداية نهاية العدو وعلامة قرب ظهور الامام المهدي، وهل قرأنا القرآن وجمعنا بين قوله سبحانه: ﴿وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ٱسۡكُنُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِیفࣰا﴾ [الإسراء ١٠٤]

وقوله عز من قائل: ﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا﴾ [الإسراء ٧]

أو فهمنا الإشارات والمعاني في قوله سبحانه: ﴿إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَـٰقُهُمۡ لَهَا خَـٰضِعِینَ﴾ [الشعراء ٤]
وقوله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلࣱۖ فَإِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ لَا یَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [الأعراف ٣٤]

أم مقامنا مقام الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِذَا قِیلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَیۡبَ فِیهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِی مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنࣰّا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَیۡقِنِینَ﴾ [الجاثية ٣٢]

إن القادم هو الامتحان الحقيقي والمحنة الأكبر، وإن بعد الأمر لأمرا، تراه العين وتشهده، ولا راد لمراد الله.