2 دقائق للقراءة
عِنْدَمَا تَصْعَدُ قِمَّةَ جَبَلِ الألَمِ، مَاذَا تَرَى؟
تَرَى كُلَّ أَوْجَاعِ البَشَرِيَّةِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الكَوْكَبَ سِجْنٌ لِلْمُعَذَّبِينَ، وَوَطَنٌ لِلأَنِينِ.
وَأَنَّ الدُّنْيَا مَا هِيَ إِلَّا دَائِرَةٌ مِنَ الآلَامِ، مِنْ مَخَاضِ البِدَايَاتِ، إِلَى حَشْرَجَةِ النِّهَايَاتِ…
وَأَنْتَ تَصْعَدُ مُجَدَّدًا تِلْكَ القِمَّةَ، تَجِدُهَا ازْدَادَتِ ارْتِفَاعًا، وَتجدُ أنّ الألَمٌ ازْدَادَ قَسْوَةً، فَأَيُّ حِقْدٍ يَحْمِلُهُ جَسَدُكَ عَلَيْكَ حَتَّى يُوجِعَكَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَأَيْنَ النَّفْسُ مِنْ هَذَا الوَجَعِ الرَّهِيبِ القَاتِمِ الحَقُودِ، هَلْ تَتَسَلَّى بِحُلْمِ يَقَظَةٍ، أَمْ تَهْرُبُ إِلَى يَقَظَةِ حُلْمٍ، أَمْ تُشَارِكُكَ الألَمَ فَتَكَادُ تَبْكِيكَ وَتُبْكِيكَ؟
عِنْدَمَا تَكْتُبُ عَنِ الألَمِ وَأَنْتَ مُطْمَئِنٌّ مُعَافًى، تُصْبِحُ فَيْلَسُوفًا.
وَعِنْدَمَا تَكْتُبُ عَنْهُ وَأَنْتَ فِي ذِرْوَتِهِ، تَكُونُ إِنْسَانًا.
فَهَلِ الإِنْسَانِيَّةُ نَسِيجٌ مِنَ الآلَامِ، فِي ثَوْبٍ مِنَ الآمَالِ، وَهَلْ مَا بَيْنَ أَلَمٍ وَأَمَلٍ بَوَارِقُ حَقَائِقٍ أَمْ بُرُوقُ حَرَائِقَ؟
أُحَاوِلُ أَنْ أَجْمَعَ شَتَاتَ فِكْرِي، وَهَذَا الألَمُ يَخْتَرِقُنِي، يَنْطَلِقُ مِنْ جَسَدِي إِلَى رُوحِي، وَيَخْتَرِقُ قَلْبِي وَعَقْلِي مَعًا.
النَّوْمُ يُثْنِي ذِرَاعَيْهِ وَيَنْظُرُ، وَالكَرَى يَصُدُّ وَيَهْجُرُ، وَالصَّبْرُ يَقِفُ وَيُعْجَبُ، وَالوَجَعُ يَنْحَنِي وَيَضْرِبُ، يَقُولُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ، وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي جَلْدِي، كَمَا جَلَدَنِي قَرَابَةَ الخَمْسِينَ عَامًا، مَرَّةً فِي حُمَّى قَاتِلَةٍ، وَمَرَّةً فِي آلَامِ سَقَامٍ قَاطِعٍ، وَمَرَّةً فِي عِلَّةِ عُضْوٍ يَتَمَزَّقُ، وَمَرَّاتٍ فِي صَبَابَاتِ العِشْقِ، وَلَوْعَةِ الفِرَاقِ، وَحَرْقَةِ الحِرْمَانِ، وَزَفْرَةِ القَهْرِ الَّذِي يَكْسِرُ عِظَامَ الصَّدْرِ، وَيُفَتِّتُ الأضْلَاعَ، وَيَخْنُقُ مُهْجَةَ الرُّوحِ.
هَا أَنَا الآَنَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى مِنَ الوَجَعِ، الَّذِي لَا يَكْسِرُنِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ مَنْعَهُ.
هَذَا الألَمُ أُسْتَاذٌ عَظِيمٌ بِحَقٍّ، لَوْلَاهُ مَا كُنْتُ شَاعِرًا، وَلَا صِرْتُ عَاشِقًا، وَلَا عَرَفْتُ طَرِيقَ اللهِ، وَلَا سَلَكْتُ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ، وَلَا ذُقْتُ مِنْ خَمْرَةِ العَارِفِينَ، وَلَا فَاضَتْ عَلَى قَلْبِي يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ، وَلَا فَتَحَتْ رُوحِي بَابَ العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ.
أَجَلْ، الألَمُ خِضْرُ الدُّنْيَا.
لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنَ المُخْلَصِينَ إِلَّا عَانَقَهُ، وَلَمْ يَدَعْ نَبِيًّا، وَلَا رَسُولًا، وَلَا إِمَامًا، وَلَا صَالِحًا، إِلَّا ضَمَّهُ بِشِدَّةٍ، وَصَحِبَهُ مِنْ لَحْظَةِ الوِلَادَةِ إِلَى لَحْظَةِ الخِتَامِ.
أَلَمِي اللَّيْلَةَ مُخْتَلِفٌ عَنْ كُلِّ مَا مَرَرْتُ بِهِ، رَغْمَ إِفْرَاطِ الوَجَعِ عَلَيَّ سِنِيَّ حَيَاتِي الَّتِي مَضَتْ، لَكِنَّ أَلَمَ اللَّيْلَةِ أَشَدُّ مِنْهَا جَمِيعًا.
بَعْضُ مُسَكِّنَاتِ الألَمِ البُلَهَاءِ حَاوَلَتْ بِغُرُورٍ شَدِيدٍ، وَفَشِلَتْ، وَضَحِكَ الألَمُ مِنْهَا بِشَمَاتَةٍ.
الجُلُوسُ يَزِيدُهُ، وَالقِيَامُ يُقَوِّيهِ، وَالمَشْيُ يُضَاعِفُهُ، وَالنَّوْمُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ.
لَكِنَّنِي أَضْحَكُ لِهَذَا الألَمِ، وَأَضْحَكُ عَلَيْهِ أَيْضًا، أَلَا يَعْرِفُنِي؟ جَمَلُ الصَّبْرِ، وَجَبَلُ اليَقِينِ، وَبَحْرُ السَّكِينَةِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَقَلَمُ اليَقَظَةِ الَّذِي لَا يَنَامُ وَإِنْ تَمَزَّقَ صَاحِبُهُ أَلَمًا.
أَجَلْ، يَشْتَدُّ عَلَيَّ كَمَا لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِمَّنْ سَبَقُوهُ وَكَانُوا شِدَادًا غِلَاظًا، يَغْرِزُ حَرْبَتَهُ فِي كَبِدِي كَوَحْشِيِّ الحِقْدِ الأوَّلِ، يَطْعَنُنِي فِي الصَّدْرِ كَشِمْرِ الطَّفِّ، يُمَزِّقُنِي كَسَنَابِكِ خَيْلِ المُرْجِفِينَ، يَضْغَطُ عَلَى وَجْهِي كَسَيْفٍ مَغُولِيٍّ، يَنْسَابُ كَالسُّمِّ، يُخَاتِلُ كَمُقَاتِلِ نِنْجَا، وَلَا يَمْلِكُ شَهَامَةَ السَّامُورَاي لِيَضْرِبَ ضَرْبَتَهُ الأَخِيرَةَ بِكَاتَانَا النَّفَسِ الأَخِيرِ، يُرِيدُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي تَعْذِيبِي، وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَمِرَّ فِي قَتْلِهِ بِصَبْرِي عَلَيْهِ، وَإِحْرَاقِهِ فِي أَتُونِ إِبْدَاعِي، لِيَغْدُوَ نَثْرًا، وَيُصْبِحَ شِعْرًا، وَيَسْرِيَ عِلْمًا وَذَوْقًا.
سَوْفَ يَمْضِي هَذَا الألَمُ بِلَا رَيْبٍ، مَهْمَا اشْتَدَّ، وَاحْتَدَّ، وَاعْتَدَّ بِنَفْسِهِ.
وَسَتَمْضِي الأَيَّامُ بِآلَامِهَا وَآمَالِهَا…
وَسَتَبْقَى هَذِهِ الكَلِمَاتُ شَاهِدَةً عَلَيَّ وَعَلَيْهِ.
وَسَتَبْقَى الأَعْمَالُ الَّتِي دَوَّنَهَا المَلَكُ الكَرِيمُ، لِتَشْهَدَ يَوْمَ العَرْضِ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنَّا أَلَمَ اللَّيْلَةِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنَّا شَرَّ يَوْمٍ كَانَ عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا…
آنَ لِي الآنَ أَنْ أَكْتُبَ مَرَّةً جَدِيدَةً: لَيْلَةٌ أُخْرَى مِنَ الوَجَعِ.