موسوعة البرهان، الجزء الأول (29): علم الأسس (8) القوة (3)

3 دقائق للقراءة

وإن النظر بالقياس البشري المادي لفرعون مثلا، يكشف أنه كانت لديه قوة في جوانب الحكم والمال والجند وغير ذلك، لكن لم يكن لديه أهم قوة، ألا وهي قوة الحق، فللحق قوة تصله بالحق سبحانه، فتلك القوة بالله ومن الله….وهذا أمر قد يبدو مثاليا حين ينظر المرء في ضعف كثير من أهل الإيمان وكثرة الظلم والجور والطغيان، وأن القوة بأنواعها المادية كلها تؤتى للغاصبين، وأن أهل الحق يقتلون على مر التاريخ وتتكرر مآسيهم في كل عصر وحقبة، فلكل زمن أصحاب أخدود يقتلون وينكّل بهم، ولكن الإيمان بأن الله سبحانه قوي عزيز: ” مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)”
مع تسلح بالحكمة، وتصديق لكلمات الله، يوصل المؤمن إلى قوله سبحانه: ” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)”
فذلك من قوة الأقدار، وذاك من قوة الإيمان والتسليم لحكمة العلي العظيم.
والله سبحانه لم يمنح القوة المادية لكل الناس بالتساوي، ولا القوة المعنوية كذلك، ولا قوة العقل، أو الحجة، وحتى قوة الروح وقوة الإيمان، وتجد مواجهات بين القوى المتضادة لأن القوة تحمل التضاد حسب النوع من جانب وهو تضاد تكاملي كقوة المعنى وقوة المادة، أو حسب الحق والباطل فذلك تضاد تناقض كتلك المواجهة التاريخية التي بينها القرآن بين قوتين متضادتين متناقضتين قوة غاشمة ظالم لمتفرعن آخر وقوة الإيمان والحجة لنبي من أهل العزم، وكيف كانت غلبة الحجة لخليل الله إبراهيم الذي حاجه النمرود في ربه غرورا واستكبارا وهو من حكام بابل تأله فأخذه الله أخذه لفرعون ولكل طاغ فتدبر: ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)”
فقوة إبراهيم عليه السلام وما أوتي الأنبياء من قوى وقدرات ليست متساوية بينهم ولا هي متساوية مع وبين الناس، فلا العقل متساو ولا الغنى ولا قوة الإرادة ولا غيرها من القوى، فأنت ترى نبي الله داوود ألان له الله الحديد وسخر معه الجبال والطير: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)”
وسخر لنبيه سليمان بن داوود عليهما السلام (هنا باب لعلم التمكين سيأتي سياقه) الريح وعين القطر والجن والشياطين: ” وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)”
وكلها صنوف للقوة، وأنت ترى في القرآن نماذج مختلفة تصل حد إحياء الموتى بإذن الله وهي من القوى الربانية العظيمة فذلك ما منح الله المسيح عليه السلام ضمن منظومة عظمى من القوى الإعجازية التي تستحق التدبر ويطول فيها الكلام فتأمل: ” إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)”
فهي من براهين القوة الإلهية، والتي لا حد لها مطلقا، وكلها قوى وقدرات إعجازية من لدن الله سبحانه، وهكذا الحال ضمن مقامات الأنبياء ومعجزاتهم، ومقامات الأولياء وكراماتهم، وتجد في التاريخ وما دوّنه البشر منه، وفي العالم من حولك، نماذج من ذلك فلا قوى البشر (أفرادا ودولا وشعوبا) متشابهة، ولا قوى الحيوانات وقدراتها متساوية، وبالقياس تفاوت قوى الجن والملائكة وغير ذلك، فليست قوة جبريل كقوة سواه، فذلك مثلا شأن الروح القدس: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)”
وهو من صنوف القوة التي لا يمكن لبشري تخيلها ولا تصورها، فهي من القوى الربانية الجبروتية الشديدة التي منحها لخاصة ملائكته وخدم مملكته وجند ملكوته.

مقالات ذات صلة

يريد أن ينقض
ذلك الجدار الدي طال به العهد، وانتقل أصحابه عن الدنيا، سئم المقام حيث لا أنيس، ولا ضحكة طفل أو سجود شيخ، فأراد أن ينقض،...
2 دقائق للقراءة
عن والدي النبي وكافله
ورقة من الموسوعة التاريخية، وهذا نموذج لما في معظم الكتب السنية تاريخا وسيرة، حين يتم ذكر ام النبي او ابوه يسمون الاسم، وحين يذكرون...
2 دقائق للقراءة
بوابات الترقي
للترقي خمس بوابات، لكل باب مفتاح:بوابة النفس ومفتاحها الرغبة.بوابة العقل ومفتاحها التأملبوابة القلب ومفتاحها الذكربوابة الروح ومفتاحها العشقبوابة البرزخ ومفتاحها القرينبوابة النفس هي الأشد...
< 1 دقيقة للقراءة
مدرستنا المغاربية ومميزاتها
قدمنا إلى المملكة المغربية العلية المباركة، من بلاد الرافدين، محملين بالمحبة، وبسر الرابطة الروحية بين سيدنا الإمام علي وحفيده مولانا إدريس الأكبر.ومن المعلوم أن...
3 دقائق للقراءة
في حضرة الإمام الرفاعي
هام الفؤاد بحضرة الأرواحوأضاء في غبش الدجى مصباحيوأتيت قطب العارفين مولّهاأرجو اللقاء بعالم الأشباحفي حالة البعد العتي رأيتُنيأهدي السلام بأحرف الإفصاحواليوم يحضر بالتجسم موكبيفامدد...
< 1 دقيقة للقراءة
رجال المحمدية البيضاء
رجال المحمديه البيضاء هم رجال الله وأحباب رسوله، وهم بوارق شموس آل البيت تشرق في العالم بسر لا إله إلا الله، ونور محمد رسول...
< 1 دقيقة للقراءة
محاضرة حرب المعنى
كلمة الشيخ مازن الشريف في مجلس علماء الرباط المحمدي الفلوجة العراقأحبابنا في أرض العراق الحبيب،  أرض الأنبياء والصالحين، وأرض أجدادنا وأسيادنا.حي العراق وسادة الأسيادمن...
13 دقائق للقراءة
في مقام الخمرة القدسية
دروس الفتح المحمدي : في مقام الخمرة القدسية. 🍃معاني عرفانية وكلام عن أحوال الله، وسكرهم بحب الله🍃 الحمد لله الذي علينا تجلى وعنا ما...
11 دقائق للقراءة
نص محاضرة: هذه فاطمة
دروس الفتح المحمدي: هذه فاطمة. كلام و مقام عن السيدة فاطمة عليها السلام ابنة خير الأنامكلمات حق تحت اللواء المحمدي و نفحات فيض من...
9 دقائق للقراءة
هدية عرفانية من كتاب الوصايا
يا بني: إن الله يعطي عبده بلا سؤال، دلالا منه له.ويمنع عطاء عبده على كثرة السؤال، دلالا منه عليه.فمن دلله، جمّله.ومن تدلل عليه، ذلّله.فإن...
< 1 دقيقة للقراءة