3 دقائق للقراءة
بعد ما بينت لك عن القراءة وأصنافها، وعن معان في أول آيات القرآن نزولا، ثم عن الفروق بين الإسلام لله والإيمان بالله ثم اتحادهما معا، وبعد أن قلت لك أن هذا الإتحاد هو بين القول والفعل والظاهر والباطن والجوهر والعرض، فقد آن أن أفسر لك معنى هذا العلم المستنبط من آية جلية ومن مفهوم عقائدي راسخ، ألا وهو علم بالله.
فهذا العلم هو علم العلم بالله، بيان عملي لاستنباط ونظر وتدبر واستلهام…ولكي أمضي نحو جوهر المسألة، فإني أقدم لك تعريفي للعلم بالله بشكل مختزل جلي فأقول:
“العلم بالله هو تحول اليقين القلبي إلى تيقن عقلي واتحادهما في القلب”
هكذا أعرفه ببساطة، وهي بساطة تحمل في طياتها الكثير ، ولقد سبق وذكرت لك ما قصدته مما أسميته “التسليم بالوجود”، وقلت لك أنني أعني به تسليما عرضيا بوجود إله، فذلك ما فهمته ضمن مصطلح “الإسلام لله”، وقلت أن الإسلام لله فيما أراه هو في استقلاليته عن الإيمان مرحلة من الإسلام اللفظي، قول لا يتجاوز اللسان ولا يلج القلب منه نور إيمان، كقول الأعراب في قوله سبحانه: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (14)”
أما في حال اتحاده مع الإيمان، وما أسميته “التسليم للموجد”، فالإسلام لله يصبح إسلام الوجه بإحسان لله سبحانه، وهنا الإيمان بالله الحق متجاوزا الإسلام اللفظي إلى الإسلام الفعلي، فيصبح الإسلام لله منضويا في الإيمان بالله حاملا لمعنى جديد هو روح الإسلام الحق فهو اتحاد ما ظهر قولا بما بطن إيمانا، واتحاد ما كان من عرض الكلام إلى ما أصبح من جوهر الفعل، وهنا مسائل ضمن “علم المصطلح”، وهو علم أعشقه ولي فيه من فضل الله بيان وابتكارات تجد منها في هذا الكتاب.
كل ما ذكرت لك مجاله اللسان والقلب، ولكن العلم بالله له مجال آخر، هو العقل، فهو ليس فقط يقين القلب محبة وتسليما، بل تيقن العقل معرفة وتقييما، والتيقن فوق اليقين، إنه التحقق الفعلي والمنطقي من صحة اليقين القلبي، وما علم اليقين في حقيقته إلا علم تيقن، لأن القين حين يصبح علما، فهو تيقن كامل، أما حين يظل نفحا وإحساسا، فهو قلبي فحسب، وإن كان القلبي شافيا كافيا، فإن العقلي سيكون ضافيا وافيا، وهنا مرتبة للعقل توحده باللب، وحين يرجع الشعاع إلى القلب، يصبح مكان للعلم الفعلي، للعلم بالله، وعليه فإن العلم بالله يمر عبر العقل ولكنه لا يستقر فيه، بل يرجع إلى القلب، فالعقل هو بوابة استنباط ونظر لا أكثر، أما مكمن النور والعلم فهو القلب، القلب المتعقل، وهو في اعتقادي اللب والبصيرة في اتحاد وتماه وفاعلية….
قد يبدو هذا الكلام معقدا جدا، لكن عليك أن ترجع للقرآن، وستجد القلب مقر العلم النهائي، وإن كان هذا العلم حتما عبر من العقل، لكن الإيمان هو من فعّله، لأن العلم حين لا يمر بقلب مؤمن، لا يصل إلى غايته الحقيقية، بل يضل طريقه، ويفتن صاحبه، لأن غاية العلم الحق وقمته..هي العلم بالله…ولا علم بالله إن لم يكن هنالك إيمان به…فإن قال قائل إن هنالك من عرف الله عبر التدبر ثم آمن، فانتقل من الشك إلى الإيمان، قلنا له إن ذلك الشخص حين انطلق من شكه العقلي فوصل إلى معرفة بالله أعقبها إيمان بقلبه، فهو بالغ للمعرفة، وليست المعرفة كالعلم، فالمعارف جملة من المعلومات، والمعرفة ثقافة ومعطيات، أم العلم فإثباتات دقيقة وحجج راسخة وبراهين ثابتة ونظم قوية متماسكة، وهنا على ذلك الذي عرف الله من خلال النظر العقلي التأملي المحض ومن خلال الانطلاق من الاحتمال أو الشك وهو منطق العلوم المادية الحديثة، سوف يمر بالإسلام لله قولا وبالإيمان به قلبا، أي أن عليه أن يؤمن بالله ونبيه وينطق الشهادتين ليثبت معرفته بالله حقا، فكم عارف بالله لكنه يرفض الاعتراف والإقرار ولا يريد أن يسلم أو يعترف بنبوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فإذا أسلم لله بلسانه ثم آمن به بقلبه وواصل على ذلك بلغ العلم به عقلا ثم غمر العلم قلبه فوصل رتبة العلماء بالله، وهي لعمري مرتبة عظيمة لا ينالهما إلا ذو حظ عظيم وحظوة كبيرة.