5 دقائق للقراءة
كنت في مقالي السابق بينت أوجها مأساوية لما يجري في بورما، ولكن في الوقت ذاته نشرت فيديو من قناة فرنسا 24 فيه بيان لوجود صور مفبركة يتم الترويج لها بشكل مكثّف، مما قد يبدو تناقضا وتضاربا، فهل أن المأساة حقيقية أم مجرد لعبة إعلامية؟ وأي داع لذلك في حال وجود المأساة أو كونها مؤامرة أخرى؟
قد أن أبين رأيي في الأمر وفق ما بلغني من معلومات أكيدة من مصادر مباشرة، أقول أن السؤال الذي يجب أن نطرحه قبل ذلك هو الآتي: ما مقدار معرفتنا بالعقل الاستراتيجي الأمريكي؟
أعتقد أن الأمر أكثر تعقيدا مما نعرفه، فهو عقل شديد المكر لديه قدرة على الاستباق وتحريك البيادق في رقعة شطرنج على امتداد الكوكب، ولكنه لسوء حظ البشرية عقل محكوم بعقلين:
العقل الأول عقل نفعي براغماتي أعمى في اللوبيات المالية والسياسية والعنصرية التي أول ضحاياها الشعب الأمريكي نفسه ومن نماذج ذلك حالات الإفلاس البنكي والشخصي ما بعد حرب العراق وأفغانستان، ودموية لعبة 11 سبتمبر، ومستقنع فيتنام وغيرها.
أما العقل الثاني الذي يحكم العقلين فهو العقل الصهيوني الذي لديه استعداد لتدمير امريكا والعالم من أجل مصلحة شرذمة من الصهاينة واستمرار دولتهم الغاصبة لأرض فلسطين.
والتحالف بين العقل الصهيوني والعقل الانتهازي العنصري (من أهم ركائزه المحافظون الجدد) تحالف قوي، ولكن يبقى للعقل الصهيوني السيطرة المالية والاعلامية والاستشرافية.
ما لم نفهم هذا المعطى ففهمنا لكل ما يجري من حولنا سيكون فهما عقيما، وسنقع في الفخ في كل الحالات، ومثال ذلك ما يجري في بورما.
هنالك فخاخ نصبوها بإحكام، ضمن احتمالية دقيقة:
*هنالك صور مفبركة عن مأساة بروما = مأساة بورما كذبة مفبركة = وقعت في الفخ.
*هنالك مأساة في بورما = يجب تكوين تنظيم مقاتل للدفاع عن المسلمين = وقعت في الفخ.
في العلم الاستراتيجي، هنالك تقنية سميتها “تقنية إيجاد المبرر”، وكنت دونتها في مقالات سابقة، عن كون داعش وظيفية، وعن كيفيات إيجاد ظروف خادمة لوظيفية داعش، وأن داعر كتنظيم متطرف ينشر الدعارة والشذوذ والانحلال الاخلاقي والالحاد يتم استخدامه كمبرر لنشاط داعش ادعاء لنصرة الدين والأخلاق، وحين تخبو نار داعش يتم إيجاد مبرر لها عبر فيلم مسيء للذات النبوية لينتشر العنف والتطرف ويولد دواعش جدد، وتقوم الوهابية بدور اصطياد الذين تلقي بهم موجات رد الفعل من اللاأخلاق إلى التزمت الأخلاقي، وكثير من الدواعش كانوا ملاحدة وشواذ وعلى فساد أخلاقي كبير.
إيجاد المبرر يعني فعل أمر حقيقي، بعد دراسة انتروبولوجية دقيقة وتخطيط واستعمال أذرع كثيرة تشرف عليها المخابرات الاسرائيلية وحليفاتها الامريكية وما كان في مدارها بشكل مباشر، وتنظر للعالم كرقعة شطرنج كبيرة يسيرة الاختراق، لجهل الشعوب وسيطرة النعرات العصبية والطائفية والاثنية عليها، وهذا مما ساهم في إشعال فتنة السنة والشيعة في العراق، واستخدامها في ما جرى في سوريا والترويج لها كمبرر لآلاف المرتزقة الذين “نفروا في سبيل الله وهبوا للدفاع عن أهل السنة ضد النصيريين والشيعة الكفار” كما روجت أدبياتهم ومشايخ الوهابية والإعلام العميل لهم. ذات الأمر لتبرير تدمير اليمن وقتل آلاف اليمنيين في مجازر ضد الانسانية “نصرة لأم المؤمنين عائشة” كشعار ومبرر.
الواقع الميداني في سوريا والعراق يمضي نحو القضاء نهائيا على الدواعش والمجموعات الارهابية الأخرى، رغم كل محاولات العقل الصهيو أمريكي وحليفه الغبي الوهابي بالمال والتحفيز العقائدي، أمر صادم جعل حساباتهم تتحول إلى سراب، وهنا لابد من بديل لأسباب كثيرة منها:
*سقوط المبرر الطائفي، فقد ظهر للعيان أن الأمر في سوريا ليس ثورة شعب ضمن نسائم حرية من الربيع العربي، وأن الحرب ليست سنية شيعية، إذ يضم الجيش السوري وحلفاؤه والجيش والحشد الشعبي العراقي سنة وشيعة ومسيحيين وعرقيات مختلفة، والإرهابيون لم يميزوا بين سني أو شيعي أو عربي او كردي أو مسلم أو مسيحي في القتل والتخريب.
*غرق آل سعود كداعم أساسي بالمال والعقيدة الوهابية الفاسدة في فيتنام اليمن، وانكسار كل غطرستهم امام صمود الشعب اليمني، في حرب ورطوهم فيها ولن تكون إلا خسرانا مبينا.
*استراتيجيات الكوبوي الذي لم يستخدم الاساليب الناعمة الملتوية التي أتقنها ترامب، بل جاء مباشرة وأشهر مسدسه وقال بوقاحة راعي البقر “أعطني المال أو أفجر رأسك”، فأخذ غنيمة ب 500 مليار دولار ورجع فرحا مسرورا وترك لحلفاء الأمس حق الصراع والحصار وتبادل التهم، وكل ذلك مدفوع الأجر مسبقا سواء بشكل مباشر أو بتعلة شراء الأسلحة.
*الصراع بين صناع التنظيمات: فليس حصار قطر سوى تفككا في التحالف مما يعني تصارع التنظيمات الارهابية التابعة لكلّ من تلك الدول، ويعني ضعفا لها جميعا.
*وجود آلاف الدواعش المبرمجين على القتل والفاقدين للمهمة، فحتى مع نقل مجموعات منهم إلى ليبيا ونيجيريا فإن الواقع الاستراتيجي في افريقيا (شمالها أو غرب الصحراء) ليس مناسبا حاليا لفعل الكثير أمام تطورات عديدة وعزيمة لدى الدول والشعوب ونفاذ التمويل وغياب المبرر القوي.
إذا لابد من حل يشعل حربا أخرى، مما يعني بيع أسلحة، نهب ثروات، ضرب دول محددة.
فشل العقل الصهيو أمريكي وحلفاؤه في ضرب روسيا رغم كل ما فعله في أوكرانيا وكل العمليات الارهابية داخل التراب الروسي عبر تنظيم القوقاز الارهابي، على العكس ازداد الدب قوة وخسروا جمهورية القرم وقسما من أوكرانيا. وفشل في إثناء الروس عن دعم سوريا، وفشل في تدمير الجيش السوري، وفي إيقاف انتصارات الحشد الشعبي، وفي السيطرة على مناطق من لبنان (مثل الجرود) وفي منع حزب الله من تحقيق انتصارات كبيرة ضد المجموعات الارهابية في لبنان وفي سوريا آخرها فك الحصار عن دير الزور. وفشل أيضا في تحجيم دور إيران، أو منعها من التقدم العلمي والعسكري، بل بقي في ذهول امام الاتفاق النووي، والضربات الصاروخية القوية والدقيقة ضد مواقع داعش في دير الزور بعد العملية الارهابية الفاشلة في البرلمان الايراني ومرقد الامام الخميني.
وفشل في إخضاع اليمن رغم كل القصف والقتل والتنكيل والتحريض المذهبي، على العكس رأينا شيخا سلفيا (الشيخ الكردي) بدعو إلى الوقوف مع المجاهدين وقال أن الحرب ليست سنية شيعية بل صهيونية إسلامية وأن آل سعود يريدون تسليم البحر الأحمر لاسرائيل، وقد كان من دعاة الفتنة، وهو فشل ذريع للمنظومة الوهابية والصهيونية.
ختاما فشل في الحفاظ على مواقع الدواعش في ليبيا، واستمرار الارهاب في تونس، واختراق الجزائر، ونجح فقط في زرع الارهاب في اوروبا وتحويل شوارعها إلى مسارح لعمليات الدهس والطعن والتفجير من لندن إلى اسبانيا مرورا بفرنسا وبلجيكا والمانيا.
يجب الاعتراف أن ذلك العقل الخبيث نجح في إشعال الحرب وقتل الآلاف، ليس لذكائه فقط، بل لأن فينا قابلية كبيرة للدعوشة، في تاريخنا وأجزاء من فقه الكراهية التي توارثناها، ولكن يجب الاعتراف أيضا ان رجال الله في كل ميادين الحرب وبكل ميادين دعمهم وقتالهم (عسكري أو فكري وعقائدي) قد حققوا انتصارات كبيرة وأفشلوا المشروع من الوصول إلى اهدافه الختامية.
الآن بعد هذه الجولة: ما هي حركة الشطرنج الموالية؟؟
ساحر الخفة حين يحرك يده اليمنى، تقوم يده اليسرى بالتحرك أيضا تحت الطاولة لاتمام الخدعة، و