8 دقائق للقراءة
*في الصورة: فرسان الإلحاد الأربعة المزعومون: (من اليمين إلى اليسار: هاريس، دوكنز، دانيت، هوتشينز)
بعد ما بيناه من التاريخ وشواهده على أن الإلحاد لا تاريخ، ومن لا تاريخ له لا مستقبل له كما هو معلوم، وبعد ما سقناه حول الداروينية التطورية، والتي أراد دعاة الإلحاد تحويلها إلى حقيقة بيلوجية تثبت عدم وجود إله، في حين أنها نظرية عن الخلق ما بعد الخلية وتطوره، وبعد ما ذكرنا من شأن هوكينغ ونظرياته الكونية التي أراد بها أن يسدد الضربة القاضية التي “تطرد الإله من الفيزياء كما طرده داروين من البيولوجيا” كما يزعم، نصل إلى الرؤوس الفعلية للأفعى، والذين يمثلون الأدوات الرئيسية في آلية الإلحاد اليوم، او تيار الإلحاد الجديد، ويسمونهم أيضا: فرسان الإلحاد الأربعة، أو “الفرسان الأربعة للاقيامة The four horsemen of non-apocalypse” في توظيف لنبوءة “فرسان القيامة الأربعة ” في سفر رؤيا يوحنا من العهد الجديد وهم فرسان الصراعات والحرب والمجاعة والموت (1)، ولعل فرسان الإلحاد دعاة لأولئك وأبوابا لهم، أو دليل آخر على أن البشرية تمضي فعلا في الطريق الخطأ، وفي طريق الموت والحرب والدمار.
فرسان الإلحاد الأربعة نجوم لدى الملاحدة، رغم وجود سواهم مثل:
*ستيفن هوكينغ الذي كنا بصدده.
*نيل ديغراس تايسون Neil deGrasse Tyson (من مواليد 1958) أحد نجوم ناشينونال جيوغرافيك وعديد البرامج التي يقدمها، وهو عالم فيزياء فلكية شهير جدا ومن كبار الملاحدة، والقائل بأن الإله بقي فقط لسد الثغرات، وسرعان ما سينزع العلم عنه مهابته وقوة وجوده، وسنرجع إليه.
*الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري (من مواليد 1959 صاحب كتاب نفي اللاهوت، أو كما هو في العنوان الانجليزي للكتاب: بيان رسمي لملحد: القضية ضد المسيحية واليهودية والاسلام Atheist Manifesto: The Case Against Christianity, Judaism, and Islam
وقد بيع من الكتاب أكثر من 200 ألف نسخة، وترجم إلى لغات كثيرة منها العربية، وخلاصته كما ذكر معهد دراسات الإسلام والعالم الإسلامي للعلوم: “في نهاية المطاف، يبدو أن الإلهام الحقيقي لكتاب ميشال أونفراي يكمن في نوع من الموضة، ” الكتاب الأسود” ونتيجته الطبيعية، تهمة الشمولية (…) المعلومات هي في معظمها زائفة أو متوقعة، ووظيفتها هي لتعزيز أطر الفكر التي في ازدياد: صدام الحضارات والمحاربة الضرورية ضد الإسلام.”
*والفيزيائي الأمريكي فيكتور ستنجر صاحب كتاب “الإله: الفرضية الفاشلة” (2008)..وآخرون..
ولكن “الفرسان” (وما أبعد الحقيقة عن نبل العبارة) هم الأشهر والأكثر تطرفا، مما جعل ملاحدة أكثر تعقلا ينقدونهم بشدة، ويصفونهم بالتطرف والعنصرية.
يتكون فيلق “فرسان الإلحاد الأربعة” من:
1/ عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز Richard Dawkins المولود سنة 1941، وهو زعيمهم، ويعد أعنفهم أيضا وأكثرهم تهجما على الدين والمتدينين وخاصة الدين الإسلامي.
2/ الصحفي الإنجليزي-الأمريكي كريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens المولود سنة 1949 والمتوفي سنة 2011. صاحب كتاب: “الإله ليس عظيمًا: كيف يسمم الدين كل شيء” الصادر سنة 2007.
3/ عالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس Sam Harris المولود سنة 1967، صاحب كتاب “نهاية الإيمان الدين والإرهاب ومستقبل العقل”” الصادر سنة 2004 وحقق مبيعات هائلة. والذي يصف الديانات على أنها ” من أشنع أنواع الإنحراف الذي يسيء استعمال الذكاء والإدراك الإنساني”.
4/ الفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت Daniel Dennett المولود سنة 1942، من كتبه «الكوع» و«الغرفة»، «العقل وأنا»، «أنواع العقول».
وقد ظهر مصطلح “الإلحاد الجديد” للمرة الأولى في مجلة شبكة المعلومات الامريكية الشهيرة wiredفي عدد نوفمبر 2006 ضمن مقال للصحفي الأمريكي جاري وولف GARY WOLF تحت عنوان “كنيسة اللامؤمنين The church of non-believers ” (2)
ويرى كاتب المقال من خلال تحليله لخطاب كل من دوكنز، هاريس، ودينيت أنهم يمثلون كنيسة جديدة لا تقل تعصبا عن الكنيسة الكاثوليكية في مساءلة الناس عن انتماءهم الديني.
يتميز الملاحدة الجدد الذين يمثل الأربعة سابقي الذكر قادة لهم بأسلوب جديد يختلف عن المنهجي العلمي الفلسفي لدى منظري الإلحاد السابقين، وهو أسلوب عدواني ومتطرف، واستئصالي أيضا. وبتركيز على الهجوم على الدين الإسلامي أكثر من سواه، وبالدعوة إلى مناهضة الأديان كلها، وإثارة الجدل حولها، ويستعملون كل الوسائل والوسائط لبث رسائلهم، حتى عبر إعلانات في الحافلات وسيارات الأجرة، وعبر مؤسسات راعية تمول نشاطاتهم.
عمل هؤلاء ليس من باب العشوائية، وخطرهم ليس من باب المبالغة، وأثرهم على العقول والشباب أمر واقعي ترتفع نسبه باطراد خاصة في العالم العربي، وفي مقال نشرته صحيفة “الواشنطن بوست” عن دراسة أجراها معهد “غالوب الدولي” عام 2012 وشملت 40 دولة، حول نسب الإلحاد في العالم، والتي صدرت بعنوان: “مؤشر عام حول الدين والإلحاد”، كانت نسبة الإلحاد في دولة السعودية 5%، وهي تضاهي نسبة الإلحاد في بلجيكا، وهي الأولى عربيا، ولعل سيطرة الفكر الوهابي وما يبثه من خرافات وما يمثله من عجرفة وتطرف هو السبب الأساسي لنسبة الإلحاد تلك في بلاد الحرمين، وهنالك دراسات عن نسبة الشذوذ أيضا وهي مرتفعة والأمر شامل للعالم العربي ككل سواء في مسألة الإلحاد أو مسألة الشذوذ، والمسألتان مترابطتان من حيث أسباب الانتشار أو المدبر للأمر والمحرك له.
وبالرغم من وجود مشككين في الدراسة، فإن جولة في مواقع الملاحدة ونشاطاتهم على فيسبوك ومواقع أخرى تبين أن أعدادا كبيرة من الشباب العربي تعتنق الإلحاد أو المنهج اللاأدري أو لديها شكوك، وطبيعي أن للفكر المتطرف دورا كبيرا في ذلك كردات فعل عقلية أو نفسية ضده من الشباب المسلم، وكذلك طبيعة الخطاب الديني الذي لم يتطور في مجمله ولم تتم تنقيته من الخرافات وكل ما ينافي العقل (الاسرائيليات والوضع والتفسيرات العقيمة للكون والدحض للحقائق العلمية التي يعمل على إثارتها مشايخ الوهابية اليوم)، في مواجهة خطاب إلحادي يستخدم الحجج العلمية ويستغل كل نقاط الضعف لدى الخطاب الديني عامة والاسلامي خاصة.
وبالرغم من أن كتب هؤلاء سابقة لظهور مصطلح الإلحاد الجديد، إذ أن كتاب الجين الأناني لدوكينز صدر سنة 1976، فإن صدمة 11 سبتمبر في الوجدان الأمريكي والغربي مثلا مرتكزا لانتشار كتبهم وفكرهم، وقد استغلوا ذلك لينطلقوا في إشعال فتيل الالحاد بحماسة كبيرة، وبدعوة لشيطنة كل دين، وتسفيه كل متدين، حتى بلغ الأمر إلى الدعوة لقتل المسلمين خاصة (كما قال هاريس) وإلى استئصال التدين وعلاج الأطفال من ذلك الوباء الفتاك والمدمر، حسب زعمهم.
تشارلز دوكينز زعيم هذه المجموعة يقول: ” إذا كنا نعتبر أن مرض الإيدز ومرض جنون البقر من الأخطار التي تهدد البشرية، فالإيمان بإله هو أحد أكبر الشرور في العالم، بل يفوق الجدري الذي جرى القضاء عليه. وبناء على ذلك فالإيمان هو رذيلة كل دين، فهو يمثل اعتقاداً لا يقف وراءه دليل”.
هذا الكلام يثبت أن موضوع الإلحاد لم يعد نقاشا علميا في شان الوجود فلسفيا أو بيولوجيا أو فيزيائيا وكونيا، بل عداء ظاهر شرس لكل نفس ديني، وكراهية للأديان وللمتدينين تصل حد الهوس، وإسفاف لغوي وانحطاط جعل الكثير من منظري الالحاد وفلاسفته يشنون هجومات كثيرة على دوكنز ومجموعته، كما سنبين لاحقا. بل إن الإلحاد لدى هؤلاء هو تيار سياسي بامتياز، تأثر بأحداث 11 سبتمبر، وركز هجومه على المسلمين أساسا، بدعوة للاستئصال التام، وبتمويل وعمل مؤسساتي منظم، وحماسة غير مسبوقة، لعلها تكشف قرب زوالهم وزوال من خلفهم.
يقول دوكنز: لقد تلاشى بقايا ما في نفسي من احترام للديانات مع الدخان والتراب الخانق لانفجارات 11 سبتمبر.
أما سام هاريس فقد دعا إلى “ضرب المسلمين بقنبلة نووية تستأصل شأفتهم إلى الأبد، إذا تطلب الأمر ذلك”.
وردا على هذه الدعوة المتطرفة، وعلى أفكار الملاحدة الجدد الخطيرة والمتعصبة، قام كتاب وصحفيون أمريكيون وغربيون كثر، ومن بينهم فلاسفة ملاحدة، بالرد عليهم وبنقدهم، ومن ذلك مقال “الإلحاد الخطير لكريستوفر هيتشنز وسام هاريس ” The Dangerous Atheism of Christopher Hitchens and Sam Harris (3) الذي صدر بتاريخ 21 مارس 2008 بالصحيفة الالكترونية الامريكية Alternet للصحفي والكاتب الأمريكي الشهير كريس هيدجز Christopher Lynn Hedges مع إشارة إلى أنه تمت بلورة المقال من كتابه الجديد “أنا لا أصدق الملاحدة I Don’t Believe in Atheists”، ويقول هيتشنز في مستهل المقال ضمن عنوان فرعي: ” من تشويه المسلمين إلى الاعتقاد بأننا يمكننا استخدام العلم من أجل تقدمنا الأخلاقي الخاص، الملحدون الجدد يبشرون بإيمان خطير”.
From demonizing Muslims to believing we can use science for our own moral advancement, the New Atheists preach a dangerous faith.
حيث بين خطورة فكر الملاحدة الجدد وخطابهم ومدى تناقضهم إذ يدعون تمثيل الأخلاق والتسامح وينقدون التعصب الديني والفكر الدموي والإرهاب ونزعة إقصاء الآخر، ولكنهم لا يكترثون لفعل كل ما كانوا بصدد نقده، فهو إقصائيون ومتعصبون وفي خطابهم دعوات متطرفة كدعوة سام هاريس إلى إبادة المسلمين كافة، ويتسائل الكاتب عن الحال لو كانت القوة لدى هؤلاء الملاحدة وماذا كانوا سيفعلون.
فرسان الإلحاد الأربعة كما يتغنى بهم أتباهم، ليسوا في الحقيقة سوى شرذمة من المتعصبين، الذين يلبسون لباس العلم والفلسفة والتحضر، ويرتدون أقنعة العقل والحداثة، ويترنمون بأناشيد الحرية والفكر، ولكنهم في الحقيقة معاول هدم للقيم الانسانية الثابتة، وخناجر في خاصرة العلم، وسراب يتوه خلفه العقل ومتاهات يضيع فيها الفكر، وليس هذا الكلام من باب التهجم العاطفي عليهم، بل خلاصة ما سنقوم بتوضيحه وتفسيره والبرهنة عليه.
ولمزيد فهم هذا التيار الذي يعمل في كل مكان من هذا العالم، ويكز على العالم العربي تحديدا، سأقسم التحليل إلى ثلاث مستويات:
*المستوى العلمي النظري.
*المستوى الأخلاقي
*المستوى السياسي الاستراتيجي.
فالملاحدة الجدد ينطلقون من حجج تبدو علمية ومن إطار يبدو نظريا، لينشروا نزعة أخلاقية يدعون من خلالها أن الإنسان يمكن أن يكون صاحب أخلاق مثلى دون حاجة للدين، أو للإيمان بوجود إله، ولكن عبر نزعتهم الأخلاقية الخاصة المناقضة لما يوهمون به، فما يجده المتابع لهم والقارئ لما يكتبون هو الحقد والكراهية المقيتة والدعوة للانحلال الأخلاقي، وكم كبير من الكذب والتضليل والتزييف، لينكشف خلف كل تلك الأقنعة مشروع سياسي استراتيجي له غايات عميقة وخطيرة يجب الانتباه إليها والتركيز عليها ومواجهتها لأنها خطر داهم على البشرية كلها تتظاهر مع مخاطر أخرى وتجتمع عبر نفس المحرك والمدبّر، فشرور الإرهاب والفوضى والشذوذ تتصل اتصالا ثابتا بهيستيريا الإلحاد والنزع اللاأخلاقية والحاقدة على الأديان عامة وعلى الدين الإسلامي بشكل خاص كما سنبين بالدليل والبرهان.
نناقش فيما يأتي المستوى الأول (المستوى العلمي) في ارتباط بالكونيات ومسألة نشأة الوجود، وبالبيولوجيا وعلم الأحياء وقضية التطور، وسوف نركز أساسا على زعيم الملاحدة الجدد تشارلز دوكينز، من خلاله كتبه: الجين الاناني، صانع الساعات الأعمى، ووهم الإله، وأيضا بعض مقالاته ومناظراته المصورة.
(1) فرسان الرؤيا الأربعة يتم وصفهم في سفر الرؤيا الأصحاح السادس والأعداد 1-8. الأربعة فرسان هم وصف رمزي للأحداث المختلفة التي ستحدث في نهاية العالم. الفرس الأول يذكر في سفر الرؤيا 2:6، “فنظرت، واذ فرس أبيض والجالس عليه معه قوس، وقد أعطى إكليلاً، وخرج غالباً لكي يغلب”. وهذا الفارس الأول يشير الى المسيح الدجال، والذي سيعطى السلطة وسينتصر على كل من يعارضه. والمسيح الدجال سيحاول تقليد كل ما سيفعله المسيح عند رجوعه، فسيأتي راكباً فرس أبيض (رؤيا يوحنا 11:19-16).
و نجد أن الفارس الثاني مشار له في سفر الرؤيا 3:6-4 “ولما فتح الختم الثاني، سمعت الحيوان الثاني قائلاً: “هلم وأنظر!”. فخرج فرس آخر أحمر، وللجالس عليه أعطي أن ينزع السلام من الأرض، وأن يقتل بعضهم بعضاً، وأعطي سيفاً عظيماً”. وهو يشير الي الحرب العظيمة التي ستندلع في نهاية الأيام. ونجد وصف الفارس الثالث في سفر الرؤيا 5:6-6، “…فنظرت وإذ فرس أسود، والجالس عليه معه ميزان في يده. وسمعت صوتاً في وسط الأربعة الحيوانات قائلاً: “ثمنية قمح بدينار، وثلاث ثماني شعير بدينار. وأما الزيت والخمر فلا تضرهما”. ونجد أن ذلك يشير الى المجاعة العظيمة التي ستحدث كنتيجة للحروب (من الفارس الثاني). وسيندر الطعام بينما تتوافر الكماليات الأخرى مثل الخمر والزيت.
والفارس الرابع مذكور في سفر الرؤيا 8:6 وهو يرمز للموت والدمار، “فنظرت واذ فرس أخضر، والجالس عليه اسمه الموت، والهاوية تتبعه، وأعطيا سلطاناً على ربع الأرض أن يقتلا بالسيف والجوع والموت وبوحوش الأرض”. ويبدو وكأنه خليط من الفرسان الثلاث السابقين. إذ بحضوره تستمر وتقسو وطأة الحروب والمجاعات والأمراض و الأوبئة. ولكن من المدهش بل من المرعب أن الفرسان الأربعة هم مجرد مؤشر يسبق وقت الإضطراب العظيم (سفر الرؤيا، أصحاح 8-9 و16).
من موقع أسئلة عن الكتاب المقدس
https://www.gotquestions.org/Arabic/Arabic-four-horsemen.html
(2) رابط المقال: https://www.wired.com/2006/11/atheism/
(3) رابط المقال: https://www.alternet.org/story/80449/the_dangerous_atheism_of_christopher_hitchens_and_sam_harris