كتاب رحلة في عقل إرهابي (29) : الفصل الخامس: الملحق: وباء الوهابية

6 دقائق للقراءة

*نُشرت في عدد من الصحف كالتي في الصورة.

قبل سنة 2007، لم أكن أعرف شيئا عن الوهابية، ككل الشباب من جيلي، لم نكن نسمع بهذا الفكر أو نهتم به، لأنه غير موجود في بلادنا، على حد علمنا على الأقل…ويوم بدأتُ دراسة التيارات المختلفة من ماسونية ومونية ومهاريشية وبهائية وسواها، وجدت بعضا من السبل نحوها، فتفطنت لخطورتها وارتباطاتها المختلفة، وفهمت أن هنالك برمجيات عقلية موجودة في كل تيار متطرف، وأن الوهابية هي الخطر القادم على الأمة، وفي ربط بينها وبين الخوارج ضمن التمشي والطرح والأسلوب، ثم في حقائق خطيرة عن تعاملهم مع الصهيونية والشر الذي حل بالأمة منذ ظهورهم وما فعلوه بالمدينة ومكة والشام واليمن والعراق وخاصة كربلاء وبالآثار النبوية وبآل بيت الحبيب وخاصة آل غالب بن مساعد الشريف، وما في زعيمهم من حقد على النبي وآل بيته، بشهادة علماء الأمة في تلك الحقبة مثل زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية وابن عابدين والتميمي والمحجوب ….. وقد قسمت الوهابية عبر تمشيها من الاستقطاب العقائدي إلى الانتظام الحركي وما ينجر عنه إلى ثلاث مراحل ، وهو تقسيم يصلح لكل تيار متطرف: التنظيرية، التكفيرية، التفجيرية، وقسمت من ينضوي ضمن الوهابية إلى أصناف وأنواع محددة.
1/ المرحلة التنظيرية: أن يُحشى عقل الضحية بالإسقاطات والمغالطات والتنميطات، فيقفد القدرة على التحليل والنقد والتمييز..

ويصبح مبرمجا فاقدا للقدرة الواعية على الفعل الإرادي، ومن نجا من ذلك حاصروه وربما قتلوه، وأعرف أشخاصا لديهم تجارب مماثلة، وعموما هي مرحلة من التنويم العقلي المستمر ويلعب الإعلام الوهابي ومشائخه دورا كبيرا في ذلك وتسنده مراكز بحوث أجنبية وخبراء في البرمجة العصبية ودول ومخابرات وغيرها تتصل كلها بالصهيونية وبالقيادات الفعلية للوهابية.

*الإسقاط: كقولهم أن آيات المشركين في عبادتهم للأصنام كي تقرّبهم من الله زلفى وسواها تنطبق على الصوفية فيسقطون المعنى إسقاطا.
*المغالطات: عبر تفسيرات مغلوطة للدين وللعقيدة – التجسيم – وللتاريخ ولكل المعطيات الفكرية والدينية حتى يجد الضحية نفسه في دوامة من الأوهام التي يحسبها حقائق قطعية.
*التنميطات: علاقة وهمية مسقطة بين أمرين أو أكثر، ومن ذلك أن يوهموا من يتبعهم أن الإسلام يعني لحية وقميصا وأن ذلك المظهر هو الأشبه بزمن الصحابة وغيرها من الأمور النمطية التي تزعزع استقرار الضحية الزمني والمكاني والثقافي والحضاري وتضعه في قوالب جاهزة وجامدة مما يضر بفكره وقلبه ووعيه.
*القدرة التحليلية: تسمح لصاحبها بتحليل ما يقرأ أو يسمع أو يرى، وحين يفقدها يصبح عاجزا عن القراءة والاستنباط والفهم الصحيح وحينها يتم التلاعب به وبعقله وحياته.
*القدرة النقديّة: تسمح لصاحبها بنقد ما يرد إليه، والنقد له آليات منطقية تمكّن من التقييم وتبيّن مواضع الخلل وأماكن القوة والضعف ومعرفة المتانة والقيمة والصحة من عدمها ونسبتها. اما فاقدها فلا قدرة له على النقد ولا مقدرة له على التبيّن والاستبانة، وهنا يكون بيدقا يتلاعب به من يمتلك زمام عقله ونفسه ويعبث به كما يريد ولأي غاية يريد.
*القدرة التمييزية: تمكّن لصاحبها من التمييز بين المسائل فيعلم الخطير من الآمن، والصحيح من الخاطئ، والجيّد من السيّء، والجميل من القبيح، والحق من الباطل. لكن فاقدها سوف يرى السيّء جيدا، والقبيح جميلا، والخاطئ صحيحا، والباطل حقّا. ويسقط في المخاطر فيجد في كنفها أمنا، أما الجميل والصحيح فيصبح عنده مستقبحا خاطئا، ويصبح الحق المحق باطلا كليّا. وهذا مدخل لاقتراف كل الجرائم والآفات.

2/ المرحلة التكفيرية: عندما تقع برمجة عقل من يحمل وباء الوهابية المعدي، وبعد أن تغلق في وجهه السبل فكل شيء حرام، وبعد أن يُزعزَع كيانه الزمني فيتوهم الماضي وأن شكله طبق له ضمن فترته النبوية، وينكر الحاضر فكل ما فيه بدعة، ويصبح سجينا في ذاته يكره الموسيقى والفن والرسم والمسرح وتُدمر فيه الثقافة الجمالية والحس الجمالي والذوق ويسقط ضمن ما أسميه الوعي الدهليزي فكأنه في دهليز ويستمر في السقوط، تبدأ المرحلة التكفيرية، فيكفّر:

أ/ذاته الماضية: فهو قبل ان يصبح وهابي ويلبس القميص ويربي اللحية، كان أمرد، وكان كافرا، وكان في بدعة، وكان يتوسل بالنبي ويحتفل بالمولد ويسمع الموسيقى ويحب الرسم وربما كانت لديه موهبة بدعية مثل الغناء أو النحت أو كان يعشق ويتغزل….
ب/عائلته والأقرب فالأقرب: فأبواه كافران ما لم يتبعا منهجة وكلام شيخه، وكذلك أهله، وهنالك مآسي وكوراث كثيرة حدثت بسبب ذلك ويصبح في حالة من التكفير تملؤه حقدا حتى على نفسه.

ج/المجتمع والعالم بأسره: وفق الولاء والبراء، فكل من خالف نهج مشائخه فهو كافر، وكل فعل مخالف فهو شرك، وعليه فمالك هالك، والأشاعرة كفار، والصوفية قبوريون كفار، والدولة المدنية ملحدة، والقانون لاغ، وكل أجنبي كافر، وكل مسلم ليس وهابيا دمه مباح وزوجته حلال وماله غنيمة، وهو ديدين ابن عبد الوهاب الذي فعل الافاعيل وقتل الالاف واغتصب جنده وعاثوا في الارض فسادا ومؤرخهم ابن بشر شاهد منهم عليهم.

3-المرحلة التفجيرية :حين تحشى بالمغالطات، وحين تسجن نفسك في نفسك وتكره العالم، وحين تحقد على كل من يخالفك، وحين تكفّر كل الناس، وحين تصبح مقطوعة موسيقية تسبب لك الاختناق والمقت، وحين تعيش بلا روح جمالية، ولا ذوق وذائقة، وحين لا ترى في الدين إلا إقامة الحدود، وفي الناس إلا كافر او مشرك أو بدعي قبوري، وحين يكون شيخك حاقدا على الامة عميلا زنيما، او جاهلا مليئا بالكراهية والشعور بالنقص، أو مغررا به لا يعلم أنه أبعد الناس عن الحق وأقربهم للباطل وهو يرى نفسه الحق كله، وحين تعبد ربا له يد ويجلس على كرسي، وحين تقع في تنميطات وهمية وإسقاطات ظلماوية، وحين تفهم آيات القرآن وفق مغالطات مدروسة بدقة لإيقاعك في الفخ، فلا غرابة حينها أن تنفجر.

المرحلة التفجيرية طبيعية جدا بعد كل برمجية عقلية مغلقة، هي طاقة لابد من تفجرها بعد تجميعها، ودور الخبراء في التيارات المتطرفة هو تقوية الانغلاق والطاقة الفوراة حتى يصل الى التفجير، وهي وفق الاتي:
أ/تفجيرية ذاتية: يمكن أن يؤذي نفسه ويقمعها حتى ينهار عصبيا او ينتحر (هنالك نماذج لذلك) أو يصاب بالاكتئاب المزمن والحقد المستمر والغضب الانفجاري.

ب/تفجيرية عنفية: يكون الكره مع الاحساس بعدم قبول الاخرين له سببا في انفجارات عنفية شديدة وقد يتعمد مشائخ الوهابية تفعيل ذلك عبر ما يقومون به من خطب ومن تكبيرات وتهييج وإفهام ضحاياهم أن العالم كله ضدهم وانهم القلة المرابطة اهل الجنة والفائزون بها وعليهم ان يتحدوا ويحموا انفسهم وهو شائع في فكر الاقليات.ويكون العنف من القبضة الى السيف والخنجر..

ج/تفجيرية تنظيمية: هنا مدخل في التنظيمات المسلحة، وحينها يُتجاوز السيف والخنجر إلى المسدس والرشاش، وهنا يكون الوهابي في مرحلة اللاعودة فيصعب حينها علاجه من وباء الوهابية الذي يكون قد دمّر روحه وذوقه وعقله وقلبه ونفسه وحوّله إلى آلة مبرمجة مستعدة حتى لتفجير نفسها بنفسها.

كلما كان الوضع متأزما كان الانتقال بين المراحل أسرع، وكنا قد بينا ونصحنا وتكلمنا في الاعلام وطالبنا باقامة لجنة ازمات، لكن احدا لم يسمع ولم ينفذ، وقلنا ان ما لدينا من خبرة يندر توفره لان الموضوع مستجد محليا، ودراستي الانفة من افضل الدراسات الاستراتيجية للتيار الوهابي، ولكن لكأن بعضهم يتحالف مع الوهابية بعلمه أو بجبنه أو بجهله واصراره عليه أو بفهوم منقوصة عديمة خبرة للمسالة الوهابية.

ومع الجهل الشعبي والصمت الرسمي والضعف الأمني والضآلة الاستراتيجية، وقلة الوعي والتوعية وعدم سماع الخبراء وعدم وضع خطط واضحة والتقاعس الذي يبلغ حد التواطئ، ومع التمويل الكبير والحقد المزمن من الذين ينشرون هذا الفكر، ومع الهلع الصهيوني وهلع حكّام الوهابية في الوطن العربي، ومع ملامح فشل المشروع الوهابي في ليبيا وسوريا، فإن تفجير الوضع التونسي امر محتوم، وإن الذين تقاعسوا او تواطؤوا سيندمون لان التيار الوهابي لا صاحب له الا الشيطان، فهو حليف ابن عبد الوهاب والا لما حولوا المدينة الى ركام ولما حول من تبعه منذ سنين بيت رسول الله الى حمام. ماذا بعد: لا ارى الحل في المواجهة، كما لا اراه في الصمت، ولا اتفق مع من يفلسف لي المرحلة، او يظن انما هي موجة وتمضي، الامر اعمق ومن ذلك واخطر، وله عمقه التاريخي منذ زمن حمودة باشا، وعمقه الاستراتيجي والعالمي وتوغله الكلي في اكثر من مكان حساس، وتغوله المالي، وكثرة اتباعه كل يوم، مما سيتمظهر في الايام القادمة في هجومات اعنف على المساجد وفي غرور اكبر يزيده خوف الشعب وتقاعس الامن الذي نظر مرتعبا في جامع بلال وكانه لم يكن صاحب الشراسة في يوم 9 أفريل ولكنها امور تدبر بليل حتى يقتل التونسي اخاه ويستقبل زعماء هذا الفكر على اعلى صعيد ولا وجود في الحقيقة لوهابية علمية واخرى جهادية وكل الامر اختلاف بين الاغصان ظاهري او مخادع اما الجذع فواحد والممول نفسه والمخطِّط ذاته وكذلك المخطَّط .

إن الصمت في مثل هذه الاوقات خيانة، وان الخوف امام امانة الدين والوطن يوصل الى جهنم، فمن كان يخاف الله فلن يخاف سواه، ومن خاف الله فقد كفاه الله، وكل ما أريد قوله في الختام: رجائي من الله سبحانه أن يقي وطننا الدماء والقتل والسفك، وان نجد السبيل لطرح جدي مع الدولة ومع المعنيين بالامر من اجل محاورة عميقة ومراجعات جذرية لدى اتباع وقادة الوهابية في تونس ومع العلماء والخبراء والمسؤولين حتى تتجنب البلاد ويلات حرب اهلية بدات تنشب في لبنان بعد ان افترست سوريا، ورغم كل شيء فانا على يقين ان الوهابية لن تنجح في تونس، وان هذا الشعب العظيم سيذوب ذلك التيار سواء من الداخل بيقظة الشباب المنتمين له ووعي قادته بحقيقة الامر، او بقوة الشعب الجبار الذي ما استهان به احد الا وندم، فتونس ترابها سخون، ورجال تونس وحرائرها لن يكونوا دمى يحركها قلب قابع في الظلام وعقل لا يقدر على التفكير ولسان لا يعرف غير التكفير.

سوسة22‏-05‏-2012‏

منشورات ذات صلة

في فن الاستباق الدكتور مازن الشريف خبير في الاستراتيجيات الامنية والعسكرية ومكافحة الارهاب خبير في علم الاستشراف والمستقبليات. رئيس المنظمة الدولية للامن الشامل
يمثل الفن عصارة الرقي البشري والاتقان الانساني في كل مجالات الحياة، فكلما بلغ العمل مستوى الابداع والعبقرية والاتقان تحول من فعل عادي إلى فن:...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (31) : الفصل الخامس: الملحق: شرح مصفوفة النظرية العامة
بعد شروحات كثيرة من منظورات مختلفة لنظريتي الثلاثية (التنظير، التكفير، التفجير) والتي تحققت مراحلها وثبتت دقتها، فإني سأشرح نظريتي العامة ضمن مصفوفة تحتوي النظرية...
5 دقائق للقراءة
الأمن الثقافي المعنى وحتمية الحاجة
مقدّمة: مثَّل الأمن جوهرا إنسانيا حضاريا منذ بدايات اجتماع البشر في قبائل ثم مدن وصولا إلى الدول، بل إن له قيمة حتى في التكوينات...
11 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (30) : الفصل الخامس: الملحق: (التنظير، التكفير، التفجير) نظر في مراحل الإرهاب وتمشّيه
كنت في بحوثي ضمن علم المنطق والفلسفة وعلم الأخلاق أجد مشاكل اصطلاحية دعتني لدراسة معمقة في علم المصطلح والمفهوم وهو علم خطير لا تعرف...
12 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (28) : الفصل الخامس: الملحق
يحتوي هذا الملحق على دراسات اخترتها بعناية، أولها حول وباء الوهابية ونظريتي “التنظير، التكفير، التفجير”، ثم تفسير لتلك النظرية عبر آليات علم الاجتماع، وهذه...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (27) : خاتمة
ليس الإرهاب مقاتلا يحمل بندقية أو انتحاريا يفجّر نفسه فقط، فتلك خلاصة التمشي الذي بدأه عقل مدبّر ووقع فيه عقل مدمَّر تمت السيطرة عليه...
3 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (26) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاستراتيجي
هو بعد معقد جدا، وهو أعقد الأبعاد وأكثرها تخللا للتمشيات، لأن الإرهاب استراتيجيا، وله استراتيجيات داخلية، تصب كلها في مصالح معينة تستخدم بيادقها لتخرب...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (25) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الدولي
ليس الإرهاب حركة معزولة، بل هو نظام كامل، وشبكة معقدة، وعبر التاريخ كله لم يكن منفصلا أبدا عن مطامح ملك في مملكة يريد أن...
< 1 دقيقة للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (24) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاقتصادي
هو بين متناقضين: حالات من الفقر المدقع التي تضغط على النفس وتمثل مجالا تنشط فيه التمشيات التي تستهدف العقل الإرهابي. وحالات من الرفاه المتخم...
2 دقائق للقراءة
كتاب رحلة في عقل إرهابي (23) : الفصل الرابع: الأبعاد والمنطلقات: البعد الاجتماعي
البعد الاجتماعي ينطلق من مدى التفكك المجتمعي، ومن مستوى الوعي في المجتمع، ومن حالات الاتزان أو فقدان الاتزان، والمعطى الأخلاقي القيمي ومدى حضوره، وكذلك...
< 1 دقيقة للقراءة